ماكرون ونصفُ الحقيقة
قد تنطوي تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أخيرا، بشأن ''الأزمة التي يعيشها الإسلام في مختلف أنحاء العالم''، على قدر من الوجاهة، على اعتبار أن تشخيصه هذه الأزمة نابع من التجربة الفرنسية مع الجالية المسلمة. وهي تجربةٌ أخفقت في اجتراح صيغةٍ للمصالحة بين الهويتين، الدينية والوطنية، اللتين تتجاذبان هذه الجالية بشكلٍ يحول دون اندماجها بسلاسةٍ في المجتمع الفرنسي. وقد اعترف ماكرون بمسؤولية بلاده عن هذا الوضع الذي سمح للمتشدّدين الإسلاميين ببناء مشروعهم، والاجتهادِ في البحث عن كيفيات تنزيل مقتضياته. ولذلك أكد على ضرورةِ التصدّي لما سمّاها "الإنعزالية الإسلامية التي تسعى إلى تأسيس نظام موازٍ وإنكارِ الجمهورية، من خلال نزعة إنفصالية تتوخى استبدال قوانين الجمهورية بقوانينها''.
ليس جديدا ما قاله ماكرون بشأن الإسلام، فالمتابع للشأن الفرنسي يعرف أن الإسلام يحوز مساحة واسعة من النقاش العمومي، خصوصا بعد الهجمات الإرهابية التي تعرّضت لها فرنسا خلال الأعوام الماضية، هذا إضافة إلى أن المشكلة الإسلامية أضحت إحدى أهم الموارد التي يتغذّى عليها خطاب اليمين الشعبوي المتطرّف. الجديد في ما قاله الرئيس أنه صدر في توقيت دقيق ودال للغاية، في ظل ما يعرفه شرق المتوسط وجنوبه من توتّر، سواء في ما له صلة بحروب الغاز الجديدة، أو ما يحدث في ليبيا التي تُعتبر فرنسا لاعبا إقليميا ودوليا مؤثرا فيها، من خلال دعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر. ولا يبدو ما قاله ماكرون بعيدا عن رؤية باريس لما يحدث في الشرق الأوسط أمام الصعود التركي الذي بات يزعج الدولة العميقة في فرنسا، المتطلعة دوما إلى الإمساك بجزء من خيوط اللعبة في المنطقة.
وحتى إذا أخذنا تصريحاته بظاهرها، فهي لا تعكس إلا نصف الحقيقة التي يحاول حجب نصفها الآخر والقفزَ عليه، فلم يقل إن سبب المشكلة الإسلامية التي تتفاقم في فرنسا يعود إلى دعم هذه الأخيرة منظومة الاستبداد العربي، ووقوفها ضد إرادة شعوب المنطقة التوّاقة إلى التغيير. ولم يقل إن الوقت قد حان لتراجع فرنسا سياساتها بشأن تطلعات هذه الشعوب وطموحاتها.
لا يعني فرنسا من المنطقة العربية غير الحفاظ على مصالحها التي يشكل الإقتصاد والإعلام والفرنكفونية عناوينها الرئيسة. ولذلك تدعم هذه المنظومة بشتى الوسائل، في مسعىً إلى إعادة إنتاج مجتمعات مفلسة ينخرها الاستبداد والفساد والتخلف.
ساهمت فرنسا في رسم معادلات السلطة والثروة في أكثر من بلد عربي بعد الاستقلال، وتحكّمت في دورة النخب والتحالفات الإجتماعية والسياسية المواكبة لها. وساندت أنظمةً وظفت الدين، وسخرت موارده لبناء شرعياتها التقليدية، وتوجيه الصراع الاجتماعي والسياسي بين القوى العلمانية والليبرالية واليسارية من جهة، والإسلامية من جهة أخرى. وظل الرؤساء المتعاقبون على قصر الإليزيه لا يفوّتون فرصة للثناء على منظومة الاستبداد العربي، ودورها في نشر ''قيم التعايش والتسامح والإسلام المعتدل''، في وقت كانت هذه المنظومة قد حوّلت معظم المجتمعات العربية حاضنةً مُثلى لصناعة التطرّف والإرهاب.
ولأن التطرّف الديني يتوازى، بالضرورة، مع غياب أي مشروع أو أفق لإشاعة قيم الحداثة والتنوير والإنجاز، فقد كان من الطبيعي أن تغدو هذه المجتمعات مصدرا لإنتاج خطاب الكراهية والعنصرية ونبذ الآخر، أمام غياب أنظمة تربوية قادرة على القيام بأدوارها في الإصلاح والتحديث.
صحيحٌ أن ماكرون تحدّث عن الإسلام باعتباره مشكلة فرنسيةً، لكن هذه المشكلة تبقى ضمن معادلةٍ ثقافيةٍ واجتماعية مركبة، يصعب الفصل فيها بين الجالية المسلمة المقيمة في فرنسا وتمثلاتها الدينية والثقافية التي تستقيها، في الغالب، من بلدانها الأصلية، ولا سيما في غياب سياسة فرنسية متوازنة في هذا الصدد. ومن هنا، لا ينطوي كلامه عن مواجهة التطرّف الديني، وحماية قيم الجمهورية، فقط على قدر غير يسير من الخطورة، بالنظر إلى ما تمثله هذه الجالية من وزن ديموغرافي، بل يفتقـد، أيضا، الاتساق والمنطقية والمصداقية، فإضافة إلى أنه وضع الإسلام السياسي في خانة واحدة، على الرغم من تباين مكوناته وخطاباته، تجنّب الحديث عن المشكلة الإسلامية في شموليتها، ولعله فعل ذلك قاصدا أن خوضه في الجذور العميقة لهذه المشكلة قد يجرّه إلى الخوض في ما لا تحبّذه الدولة العميقة في فرنسا.