ماكرون وتصدير الأزمة

16 أكتوبر 2020
+ الخط -

ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطاباً، عرض خلاله خطّة عمل لمواجهة ما سماها "النزعات الانفصالية"، قال فيه "إن الإسلام ديانة تعيش اليوم في أزمة في كلّ مكان في العالم" بسبب تجاذب تيارات داخلها، مُشدّداً أن على فرنسا "التصدّي للنزعة الإسلامية الراديكالية" الساعية إلى إقامة "نظامٍ موازٍ" و"إنكار الجمهورية"، متحدّثاً بإسهابٍ عن "الانفصالية الإسلامية" التي أدّت إلى تسرّب الأطفال من المدارس، وتطوير ممارسات ثقافية ورياضية خاصّة بالمسلمين، على حدّ قوله.

أثارت تصريحات ماكرون عاصفة من ردود الفعل، واستنكر شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، بشدة، تلك التصريحات، فكتب في صفحته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي: "في الوقت الذي نسعى فيه، مع حكماء الغرب، لتعزيز قيم المواطنة والتعايش، تصدر تصريحات غير مسؤولة، تتخّذ من الهجوم على الإسلام غطاءً لتحقيق مكاسب سياسية واهية .. هذا السلوك اللاحضاري ضدّ الأديان يؤسّس لثقافة الكراهية والعنصرية ويولّد الإرهاب". كما أصدر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بياناً شديد اللهجة، رفض فيه تصريحات ماكرون عن الإسلام، ووصفها بأنها دعوة صريحة إلى الكراهية والعنصرية، وأنها تنسف كلّ الجهود المشتركة بين الرموز الدينية للقضاء على التنمّر بين الأديان. 

تصريحات ماكرون عن الإسلام محاولة لتحقيق مكاسب انتخابية، قبل الانتخابات الرئاسية التي سيذهب إليها موقناً بخسارته أصوات اليسار

الملمح الأوّل اللافت في تصريحات ماكرون هو التعميم الاختزالي، فلم يهاجم التطرّف الإسلامي، أو جماعات الإسلام الحركي، أو حتى المسلمين في فرنسا، ولكنه هاجم بصورة شاملة الإسلام في كلّ العالم، في خروجٍ عن الخطّ الذي كانت تصريحات الساسة الغربيين تلتزم به، عندما كانت تفرّق بين الدين الإسلامي والممارسات الخاطئة التي يرتكبها بعضهم باسم الدين. 

الملمح الثاني هو التوقيت، حيث جاء خطابه بعد أيّام من وقوع حادث طعن بالقرب من المقرّ السابق لمجلّة شارلي إيبدو، على إثره ألقت السلطات الفرنسية القبض على شاب من أصل باكستاني، بصفته مشتبها به، وجاء الحادث في وقتٍ تجري فيه محاكمة 14 شخصاً متهّمين بتقديم المساعدة لاثنيْن من المتطرّفين في تنفيذ هجوم العام 2015، وأدّى إلى مقتل 12 شخصاً. كما يأتي الخطاب في أعقاب أزمة أثارتها الطالبة مريم بوجيتو، ذات الأصول المغربية، في البرلمان الفرنسي، بعد حضورها جلسة برلمانية مرتدية الحجاب، ما دفع برلمانيين إلى مقاطعة الجلسة. 

يكشف الخطاب الهويّاتي الفجّ  عن تناقضات ذاتية للثقافة الأوروبية القائمة على الحرية، والتنوّع الثقافي والحضاري

وتأتي تصريحات ماكرون كمحاولة لتحقيق مكاسب انتخابية، قبل الانتخابات الرئاسية التي سيذهب إليها ماكرون، موقناً بخسارته أصوات اليسار، بعد فشله الذريع في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتعددّة التي ضربت فرنسا أخيراً، بدءاً من أزمة احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، وانتهاءً بالفشل في مواجهة تبعات أزمة جائحة كورونا. ولم يبقَ أمام ماكرون سوى مغازلة جماعات اليمين المتطرّف، ومحاولة خطب ودّهم والمزايدة عليهم، بهجومه على الإسلام، ما قد يضمن له الحصول على قسط وافرٍ من الأصوات اليمينية، وإلا خرج من الانتخابات بخُفيّ حنيْن.

ثمّة وجه آخر لقراءة تلك التصريحات، كمحاولةٍ لتبرئة الذّات وتصدير الأزمة إلى الطرف الآخر، حيث فشلت فرنسا فشلاً ذريعاً في كلّ نُسخها الجمهورية (ما فتئت ترفع شعاراتها التنويرية الحداثية: الحرية - الإخاء - المساواة) في إقامة نموذج حضاري يقوم على المواطنة، والتعدّد، والاندماج، كما أن هناك تمييزاً صارخاً تشهده فرنسا أخيرا، فشلت كلّ الحكومات المتعاقبة في التعامل معه منذ أزمة الضواحي في العام 2005 . 

العلمانية اللائكية الفرنسية هي الأشرس، مقارنة بالعلمانية البريطانية، أو حتى الأميركية (على التمايزات بينهما)، فاللائكية الفرنسية لا تقف عند تحرير السياسي من هيمنة الكنيسة، بل تلاحق الدين بصورة حثيثة، محمّلة بنزعة صفرية، وتمنعه من الظهور بأي صورةٍ في المجال العام، ليصل الأمر في المحصّلة النهائية إلى إحلال القالب اللائكي الصلب محلّ الدين بصورة قسرية، لتصير الدولة هي حارسة القيم اللائكية، وتصبح بمثابة الخصم والحكم في آنٍ، فهي التي تخطّ الحدود التي يقف عندها الدين، عبر هيمنتها الكاملة على الآليات التعليمية والتثقيفية، وهي التي تطبّق القيم اللائكية بكلّ صرامة على مواطنيها، ناشبةً أنيابها ومخالبها في المجال الخاصّ للأفراد، ويزداد الطين بلّة بتزاوج القيم اللائكية ببقايا الإرث الاستعماري التمييزي (بنظرته الدونيّة للشعوب المُستعمَرَة في الماضي)، والذي ما زال مُهيمناً على العقل التاريخي لفرنسا حتى الآن، وحتى في عهود الأحزاب الاشتراكية لم يختلف الحال كثيراً عمّا سواها. 

الإسلام دين مجالٍ عامٍّ لا خاصٍّ، بمعنى أن له سمات حضارية لا بدّ أن تظهر في المجال العامّ

الإشكالية هنا أن الإسلام دين مجالٍ عامٍّ لا خاصٍّ، بمعنى أن له سمات حضارية لا بدّ أن تظهر في المجال العامّ، بعكس المسيحية التي تنحصر بالمجال الخاصّ داخل الكنيسة، ومن هنا يأتي الصدام المتكرّر بين اللائكية الفرنسية ذات الطابع التسلّطي والحضور الحضاري للإسلام في المجال العامّ (لا يخلو من محاولات التسييس، فضلاً عن الممارسات الخاطئة لمسلمين جانحين إلى التنطّع والتشدّد). وهنا يتجاوز الأمر فرنسا إلى عموم القارّة الأوروبية، ولا سيّما إذا ما أضفنا عامل الزيادة المضطرّدة في أعداد المسلمين في القارّة العجوز، فهناك ما يشبه الهلع الأوروبي من تمدّد الحضور الإسلامي، ومواجهته ومحاولات تحجيمه، والذي صار يمثّل مصدر تهديدٍ للهويّة الأوروبية المسيحية، وبين حين وآخر، نجد مظاهر لهذا الهلع، كان أشهرها أزمة المآذن في سويسرا في العام 2009.

المخرج يكون بالتعامل مع جذور الأزمة، بتطبيق المواطنة الكاملة على الجميع، وإلغاء كلّ مظاهر التمييز الاقتصادي، والتهميش الاجتماعي، والاستقطاب الطبقي، والتخلّي عن السياسات النيوليبرالية وسوء توزيع الثروة. أمّا مثل ذلك الخطاب الهويّاتي الفجّ فهو يكشف عن تناقضات ذاتية للثقافة الأوروبية القائمة على الحرية، والتنوّع الثقافي والحضاري، كما أنه سيؤدي إلى نقيض مقصده بنشر النزعات الانفصالية، لا مكافحتها، فالطرح الهويّاتي يؤدّي دوماً إلى تعزيز نزعات الانكفاء والانغلاق على الذّات، لأن من شأنه إذكاء نار الصراعات الهويّاتية. أمّا الأسوأ فهو أنّه يمثّل وقوداً مثالياً لنشر التطرّف، فالتطرّف يُغذّي بعضه بعضاً.