ماذا لو لم يكن "أوسلو"؟
على نحو ما كان دارجاً في كل عام، أثارت الذكرى السنوية الثلاثون لاتفاق أوسلو، قبل أسبوع، لواعج كثيرة في الصدور، وأطلقت نقاشاتٍ نمطية، قليلة هذه المرّة، لدى عدد محدود من معارضي هذا الاتفاق، الذي أهرق دماً وحبراً وخلافات شديدة، حيث تبارز المنخرطون في هذا الهجاء الموسمي، في تعداد مثالب اتفاق مليء بالعيوب والنواقص حقاً، فأشبعوه ذمّاً وقدحاً بلا حدود، بل وحمّلوه أوزار كل ما تعاني منه الأوضاع الفلسطينية من تردِّ وضعف وانقسام، وسط غياب وجهة نظر مقابلة، تأخذ على عاتقها مهمّة شاقة بالفعل، وباعثة على أسوأ الظنون، مع أنها مجرّد محاولة حذرة، قوامها وضع قليل من النقاط على بعض الحروف، في نصّ اتفاق يصعب الدفاع عنه.
تجنّباً للدخول في هذا السجال الذي لا نهاية له، واختصاراً للوقت والجهد والصّداع، دعونا نطرح سؤالاً افتراضياً لا محل له في الواقع السياسي: هل كان مقدّراً للوضع الفلسطيني، على علّاته الراهنة، أن يكون اليوم أفضل، في ما لو لم يكن هناك هذا الاتفاق المذموم المأكول كخبز الشعير؟
ينطوي هذا السؤال الذي لم يطرحه المتحاورون على الرأي العام، ولا على أنفسهم ذات يوم، وجوب استعادة المعطيات الذاتية الصعبة للغاية، واستذكار الظروف الموضوعية غير المواتية، والأخطار المحدقة بمصير الكفاح الوطني، تلك التي كانت قائمةً عشية "أوسلو"، ومن ثمّة عقد مقارنة صريحة، بين ما كان عليه الحال السياسي والاجتماعي الفلسطيني آنذاك وما هو عليه الوضع في هذه الآونة العصيبة، لعل ذلك يساعد في تلمّس إجابةٍ منطقيةٍ عن السؤال الذي ظل خارج التداول العلني طوال الوقت، ماذا كان سيحدُث لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيت الفلسطينيين الأخير وعنوانهم الكفاحي، في منفاها البعيد في تونس، إذا طال بها المقام، غير التآكل والاهتراء التدريجي، إلى أن تلقّى النهاية التي انتهت إليها طيبة الذكر، المرحومة "حكومة عموم فلسطين"؟
وما المصير الذي كان ينتظر قوات الثورة الفلسطينية المشتّتة في الديار العربية، خصوصا بعد اندلاع ثورة الربيع العربي، غير المصير الذي دُفعت إليه قوات جيش التحرير في سورية، حين صارت قوة تشبيح في خدمة نظام الأسد؟ ولا أحسب أن مصير نظرائها في ليبيا أو اليمن أو السودان وغيره، كان سيختلف كثيراً، سواء مع الحوثي أو معمر القذافي أو عبد الفتاح البرهان. وفوق ذلك، ما السبيل إلى إدامة المقاومة من الخارج، وقد انسدّت الدروب وجفّت الضروع، وانغلقت الأبواب، وعاد الفلسطيني إلى ما كان عليه سابقاً، مجرّد مشكلة أمنية عويصة، وعبئاً سكانياً ثقيلاً على القوم في دول الجوار؟
يضيق المقام عن الاستطراد في المقارنة بين ما كان عليه الحال في لحظة ما قبل أوسلو، من انسداد سياسي وحصار مالي وقطيعةٍ بلغت حد التهميش والإقصاء، سيما بعد غزو الكويت، وأوائل زمن اتفاق أوسلو، الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الدولي، فتح أفقاً وبدّل الحال السياسي الاقتصادي المزري إلى حال واعد بعض الشيء، حيث جرى الخروج من الشرنقة الخانقة أولاً، وتعويم السفينة المتهالكة ثانياً، واستعادة زمام المبادرة السياسية ثالثاً، وإقامة أول رأس جسر إلى المتاح من الأرض، عبرت عليه قيادة المنظمة على نحو يليق بقيادة حركة تحرّر وطني استقبلتها في غزّة مئات الألوف، وعاد في ركابها (مع عائلاتهم) نحو ربع مليون كادر ومناضل ومبعد ومحارب قديم، اسّسوا أول كيان فلسطيني معترف به دولياً، وعكسوا اتجاه الهجرة الفلسطينية التقليدي، فصار من الشرق إلى الغرب لأول مرة منذ النكبة عام 1948.
لكن ماذا لو تم التخلي عن "أوسلو"، وبالتالي عن أهم مخرجاته وهي السلطة الوطنية؟ ما العنوان السياسي الفلسطيني البديل إذا انهار أول كيان فلسطيني، وتقوّضت الشرعية وانقطعت المساعدات الخارجية؟ ما العمل إزاء نحو 170 ألف موظف عسكري ومدني، ومثلهم متقاعدون، يتلقون رواتب شهرية منتظمة من خزينة السلطة؟ وما هو العائد المتوقّع غير الفوضى الشاملة والكيانات المناطقية المتنازعة؟ وما هي البدائل المتاحة أمام نحو خمسة ملايين مواطن يديرون حياتهم المدنية بأنفسهم، غير إعادتهم إلى الإدارة "المدنية" الإسرائيلية؟ وهل حكم قطاع غزّة المحاصر وغير المعترف به (عدا عن اعتراف إيران) هو النموذج الأمثل للتعميم؟ وآخراً، هل منعت "أوسلو" مقاومة الاحتلال بالرصاص، وفي الأذهان الانتفاضة الثانية المسلحة، ومعركة النفق التي خاضتها قوات أمن السلطة ذاتها، تلك التي قُتل فيها نحو 75 صهيونياً واستسلم منهم في نابلس 46 جندي احتلال؟