ماذا لو حصلت الحرب بين إيران وإسرائيل؟
خابَ أملُ البعض من عدم دخول إيران في حربٍ معلنةٍ وشاملةٍ ضدّ إسرائيل، بعد أن سارعت، عبر بعثتها في الأمم المتحدة، إلى الإعلان أنّه مع إطلاق 420 مسيّرة وصاروخ كروز وباليستي "يمكن اعتبار الأمر منتهياً"، وأنّ هذا القصف "إجراء دفاعي"، وليس هجوماً أو إعلان حرب. وهدّدت إيران على لسان نائب وزير خارجيّتها للشؤون السياسية، علي باقري كني، الاثنين الفائت، بأن ردّها على إسرائيل سيكون مباشراً، وبدون انتظار، إذا تجرّأت إسرائيل وارتكبت خطأً جديداً. وهذا يعني أنّ ما فعلته إيران في ردّها على الغارة الإسرائيلية على قنصليتها في دمشق، واغتيال 16 شخصية، بينهم اثنان من قادة الحرس الثوري، ليس أكثر من رسالة رمزية تُوجّهها، من جهةٍ إلى أذرعها في المنطقة للحفاظ على مصداقيتها وعلى ماء الوجه، ومن جهةٍ ثانية إلى إسرائيل، ومن خلفها شركائها في الغرب، أنّها لاعب إقليمي قادر على الردّ.
ما فعلته إسرائيل في هجومها على القنصلية الإيرانية في دمشق جريمة وخرق صارخ لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961). وكان سبباً مشروعاً لإيران للدخول في حربٍ مفتوحةٍ وشاملةٍ مع إسرائيل بحجّة الدفاع عن نفسها ضدَّ عدوان خارجي، ولكنها لا تريد ذلك، وهي تعلم جيّداً أنّ المواجهة الشاملة والمباشرة ليست في مصلحتها، وقد تجرّدها من النفوذ الإقليمي والهيمنة على بعض الدول العربية، كما أنّ ميزان القوى العسكري والدولي يميل لصالح إسرائيل. ولذلك كان ردّها تكتيكياً محكوماً بحساباتٍ براغماتيةٍ لا يتناسب مع حجم خسارتها جرّاء قصف قنصليّتها، بحيث لا تعطي لنتنياهو سبباً "مشروعاً" لمهاجمتها وإطالة أمد الحرب. وبناءً عليه، استطاعت صواريخ ومسيّراتٌ قليلة اختراق الدفاعات الجوية الأميركية والإنكليزية والفرنسية والقبّة الحديدية الإسرائيلية والوصول إلى أهدافها.
بعد رسائلِ التهدئة الإيرانية السريعة، خابَ أمل بعض المراقبين في حصولِ حربٍ شاملةٍ بين إيران وإسرائيل، كما خابَ أمل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في دفع طهران ما أمكن إلى التصعيدِ وتوريط واشنطن معها في هذه الحرب، فهو يعلم أنّها مخرجه الوحيد من مأزق جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيشُه بحق غزّة وأهلها، ولم تحقّق له أيّ نجاح في نظر المجتمع الإسرائيلي. وهو يعلم أنّ نصف دول أوروبا الغربية، وخصوصاً اللاتينية والدول الاسكندنافية، تُطالب إسرائيل منذ أشهر بوقف هجومها الإجرامي على غزّة والسماح بدخول المساعدات الغذائية. أمّا النصف الآخر من الدول الأوروبية، الأنغلوسكسونية من حيث الثقافة، أو التي يقودها يمين شعبَوي، فلم تقل عموماً شيئأً يُذكر عن المذابح الصارخة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، ولكنها بدأت تشعر بقلق شديد بشأن عدم توصّل الجيش الإسرائيلي إلى نتائج ملموسة، وتجاه الانتقادات المتزايدة لها من الرأي العام واتهامها بالتواطؤ، الضمني والصريح، في جريمة الإبادة الجماعية التي أقرّ القانون الدولي توصيفها منذ نصف قرن وما يخضع لها من تبعاتٍ قانونية. وبشكل خاص، حين أعلن الاتحاد الأوروبي، العالق بين هذين الموقفين، قبل شهر، أنّ إسرائيل لا تسمح بدخول ما يكفي من الغذاء إلى غزّة، وأنها تستخدم الجوع "سلاح حرب"، طبعاً من دون الإشارة إلى طبيعة الإبادة الجماعية للإجراءات الإسرائيلية، مع العلم أنّ ما يحصل على أرضِ الواقع في غزّة يتوافق تماما مع الفقرة (ج) من المادة الثانية من اتفاقية عام 1948 بشأن "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها": إخضاع أعضاء جماعة (قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية)، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي، كلّياً أو جزئياً، وهو ما يحصل فعلياً في غزّة.
بعض المناهضين لإيران ولإسرائيل معاً في منطقة الشرق الأوسط كان يأمل ويرغب في حصول حربٍ شاملةٍ بينهما، من مبدأ "عدوان يتصارعان، لننتهي من واحد منهما"
بعض المناهضين لإيران ولإسرائيل معاً في منطقة الشرق الأوسط كان يأمل ويرغب في حصول حربٍ شاملةٍ بينهما، من مبدأ "عدوّان يتصارعان، لننتهي من واحد منهما". ولكن ماذا لو حصلت فعلاً هذه الحرب بين إيران وإسرائيل؟
يجب أن ندرك أنّها ستكون بمثابةِ كارثة إنسانية غير مسبوقة على شعوب المنطقة، وخاصة على الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفاً. إنّ المواجهة المسلحة الشاملة بين إيران وإسرائيل، التي تمتلك ما لا يقل عن مائتي رأس نووي والمستعدّة لارتكاب أيّة مذبحة أُخرى للحصول على مظهرٍ من مظاهر النصر، كانت لتسبّب الموت والفوضى، ليس فقط في إيران، بل في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط. فإسرائيل لن تهاجم إيران فحسب، بل ستهاجم أيضًا آلاف الأهداف في جميع أنحاء لبنان وسورية والعراق واليمن ومياه الخليج العربي، حيث تمرّ ناقلات النفط الإيرانية. وفي جميع هذه البلدان، وحتى في الأردن الموجود في وسط هذه المعمعة، كان من الممكن تسجيل أضرار بشرية ومادية هائلة، لأنّ جيش الكيان الصهيوني، الذي تسيطر عليه حكومة يمين متطرف تطغى عليها نزعة نرجسية تدميرية إجرامية، يريد التدمير الشامل، وليس الدقة في إصابة الأهداف العسكرية، وهذا أعلنه صراحةً المتحدّث باسمه، دانييل هاغاري.
سيعمّ دمارٌ شاملٌ في المنطقة، بما فيها إسرائيل، يطاول الحجر والبشر، جنون تدميري للمباني السكنية في القرى والمدن وللبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك النقل والصحة والتعليم والمياه والاتصالات، وربّما في غضون شهرين سيدخل الشرق الأوسط بأكمله في حالةٍ من الركود الاقتصادي الحاد والانهيار السريع، وما يتبعها من نزوحِ عشرات الملايين من البشر هرباً من الجوع أو من القتال، ومحاولة مئات آلاف منهم للوصول إلى تركيا وأوروبا، حيث لا أحد يريد المزيد من موجات الهجرة من الشرق الأوسط. دول أوروبا اليوم منقسمة على نفسها بشأن تعاملها مع جريمة الإبادة الجماعية في غزّة، ولكنها للأسف متّحدة بشأن الرفض القاطع لمزيدٍ من موجات الهجرة من الشرق الأوسط.
لا تملك إيران حالياً أيّة وسيلة لهزيمة إسرائيل المدعومة من أقوى الدول الغربية
لا تملك إيران حاليا أيّة وسيلة لهزيمةِ إسرائيل المدعومة من أقوى الدول الغربية، وقد كشف هجومها الصاروخي عن "وجود أوركسترا فاعلة في المنطقة، للدفاع عن إسرائيل"، تشارك فيها بلدان عربية للأسف. في أحسن الأحوال، يمكن لإيران أن تصمُد وتقاوم الحرب عدّة سنوات، على أمل أن تصبح مكلفة للغاية بالنسبة للمعتدي، وتجبره على التوقف والتراجع، وستعتبر ذلك نصراً كبيراً، مثل ما فعله الحوثيون أو حركة طالبان ضدّ القوى التقليدية الأكثر قوة، ولكن بأيّ ثمن؟
تشكل حالتا اليمن وأفغانستان اليوم من بين أسوأ الأزمات الإنسانية المعروفة في العالم، بعد غزّة مباشرةً، وهما موطن لملايين النازحين داخلياً، والذين غالبا ما يُعانون من الجوع والحرمان وتفشّي الأمراض. ففي عام 2023، كان هناك حوالى 21.6 مليون يمني يحتاجون إلى أيٍّ من أشكالِ المساعدة الإنسانية السريعة، كما أكد تقرير صادر عن شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) أنّ اليمن سيظل بحلول أكتوبر/ تشرين الأوّل 2024 الدولة الأكثر احتياجاً للمساعدات الإنسانية، مع استمرار تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي من دون أيّ بوادر تحسّن. أما في أفغانستان، ف95% في من الناس لا يملكون طعاماً كافياً، و6.6 ملايين شخص معرّضون لخطرِ المجاعة، في حين يعاني مليون طفل من سوء التغذية الحاد، بحسب تقارير الصليب الأحمر الدولي.
مهما كانت مواقفنا السياسية تجاه طهران وتل أبيب، علينا أن ندرك أنّ عِداء إيران لإسرائيل ليس من أجل فلسطين ولا الفلسطينيين، وأنّ الصراع بينهما ناتجٌ عن المنافسة على النفوذ والمصالح الإقليمية. وعلينا أن نرى في غياب التصعيد والحرب الشاملة بينهما فرصة لشعوب المنطقة، وليس العكس، وحدهم أعداء هذه الشعوب من يتمّنون هذه الحرب. ولا بديل لنا عن متابعة الضغوط الشعبية المتزايدة (المظاهرات، حركة المقاطعة الاقتصادية، جمعيات المساندة...)، سواء في المنطقة العربية أو في دول العالم الغربي، لوقف جريمة حرب الإبادة الجماعية ضد غزّة في أسرع وقت ممكن، ومساندة الشعب الفلسطيني في نضاله لنيل حقوقه والاعتراف بدولة فلسطينية كما تنصّ عليه المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن.