ماذا فعلت أوكرانيا بمعادلات قوى المشرق العربي؟
لم يعد هناك جديدٌ مهم يضيفه المرء في الحديث عن التداعيات التي خلّفتها، وتخلّفها، الحرب الروسية الأوكرانية في قضايا الأمن والغذاء والطاقة على مستوى العالم. ما لم يأخذ حقّه من النقاش حقًا هو تداعيات تلك الحرب على أوضاع المشرق العربي والعلاقة بين القوى التي تتنافس على النفوذ فيه، وهي إلى جانب روسيا، الطرف الأصيل في الحرب الأوكرانية، تركيا وإيران، إضافة طبعًا إلى إسرائيل (الحاضرة في كل ملفات المنطقة) والعرب، ونعني هنا السعودية تحديدًا، باعتبارها القطب العربي الأهم في غياب مصر والعراق وسورية.
نبدأ بروسيا، وهي، نتيجة خطأ حساباتها، سوف تتضرّر، على المستوى الاستراتيجي، بفعل العقوبات القاسية التي فرضت عليها، وضعف قبضتها على أسواق الطاقة الأوروبية، وزيادة اعتمادها على الصين في معركتها مع الغرب، لكنها، وبعكس ما ذهبت إليه تحليلات إعلامية في بداية الحرب، لن تقلّص اهتمامها بمنطقة المشرق العربي، ولم تسحب أي قوات مهمة من سورية، كما أكّدت مساعد نائب وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، دانا سترول، في شهادة أمام الكونغرس في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وناقضت فيها كل التقديرات بهذا الخصوص، وقالت إن روسيا لم تنقل حتى مقاتلين من جنسيات أخرى من سورية إلى أوكرانيا. ورغم أن طرق الإمداد الروسية تجاه سورية صارت أصعب نتيجة إغلاق تركيا مجالها الجوي في وجه الطيران العسكري الروسي وتقييد حرية الملاحة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، إلا أن النشاط العسكري الروسي في سورية ظلّ على حاله، ما يعني أن موسكو تعتبر وجودها في شرق المتوسط جزءا محوريا في صراعها مع الغرب. ليس هذا فحسب، بل تعتبر أن خروجها من سورية يعني خروجها من قلب "اللعبة الكبرى" في الشرق الأوسط، حيث تمتلك، من خلال وجودها هناك، أدوات ضغط مهمة على تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية، وحتى على الولايات المتحدة وأوروبا.
أما إيران، ورغم أنها وجدت في حرب أوكرانيا فرصةً يمكن الاستفادة منها على أكثر من صعيد، إلا أنه تبيّن لاحقا أن خسائرها منها كانت أكبر. اعتقدت طهران أول الأمر أن أزمة الطاقة التي زادتها سوءا الحرب الأوكرانية سوف تدفع الولايات المتحدة إلى تقديم تنازلاتٍ في مفاوضات فيينا النووية. ليس أن هذا لم يحصل، بل تضرّرت صادرات إيران النفطية إلى الصين التي صارت تشتري كمياتٍ أكبر من النفط الروسي (بدل الإيراني)، وقد بات سعره أرخص بسبب العقوبات الغربية. فوق ذلك، لم تستفد طهران كثيرا من انشغال موسكو بحرب أوكرانيا لتعزيز نفوذها في سورية، بل زادت حاجتها إلى روسيا لمنع تركيا من إطلاق عملية عسكرية جديدة، خصوصا في منطقة تل رفعت التي توليها إيران أهمية كبرى، لقربها من بلدتي نبل والزهراء. وما زاد الأمر سوءا أن إسرائيل استغلّت انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، وسعيها إلى تجنّب أي تصعيد محتمل شرق المتوسط لزيادة معدل استهداف مصالح إيران في سورية. ومنذ الحرب الأوكرانية لوحظت زيادة كبيرة في حجم الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف ومصالح إيرانية في سورية، وحتى داخل إيران نفسها، نتيجة رفع واشنطن الفيتو عن إسرائيل، بعد تعطل المفاوضات النووية في فيينا بتأثير الحرب الأوكرانية.
أما تركيا التي تعزّز موقفها بصورة كبيرة نتيجة حاجة الطرفين، الروسي والأطلسي، إليها في الصراع الدائر في أوكرانيا، فلم تكن مكاسبها بالحجم المتوقع، أيضا، رغم أنها تعدّ أبرز الرابحين، فقد زادت فاتورة الطاقة مثلا بشكل كبير عليها، ويتوقّع أن تبلغ هذا العام نحو 50 مليار دولار، كما تفاقم معدل التضخم ليصل حاليا إلى 78%، وهو الأعلى منذ أزمة 1998 الاقتصادية. لم تستطع تركيا أيضا ترجمة حاجة روسيا وأميركا إليها في الصراع الأوكراني، ولا بشأن منع توسع حلف شمال الأطلسي لإطلاق عملية عسكرية جديدة في سورية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أميركيا شرق الفرات.
أخيرا، لا يبدو أن السعودية، التي تعد الرابح الأكبر بحقّ من الحرب الأوكرانية، في وارد تحقيق مكاسب سياسية فعلية من وضعها الفريد في سوق الطاقة العالمي، سوى مراكمة مزيد من عوائد بيع النفط، لا لشيء إلا لأنها لا تملك أي استراتيجية لتحقيق ذلك.