ماذا بعد "انقلاب" مقتدى الصدر أخيراً؟
قال مقتدى الصدر مرّة إنه معجب برواية يوسف زيدان "عزازيل". وقد يكون هذا الإعجاب هو السر في تماهيه وتوافقه مع الراهب هيبا الذي ظهر في الرواية وهو يتلقى الأوامر والنواهي من عزازيل الشيطان الذي يأمر وينهى، فيما هيبا يطيعه ويخضع لإرادته، على الرغم من شكوكه في أفكار لاهوتية عديدة، ومنها ما يتعلق بطبائع البشر والشياطين، وعلى الرغم من صراعاته بخصوصها، تلك الشكوك والصراعات التي دفعته، في النهاية، إلى تقرير الخروج من الدير، والتخلي عن أفكاره، وإنكار كل ما فعله في السابق، لأن "خدمة الله لا تكون في المعابد والهياكل الفارهة، إنما في قلوب المؤمنين الذين يظلون قاصرين عن إدراك هذا العالم بكل ما فيه". ولم يفصح هيبا عن الجهة التي يروم الهجرة إليها، لأنه لا يريد من أتباعه أن يلحقوا به، لكن القارئ يستشفّ ما لم تقله الرواية في أن هيبا، وقد هجر الدير أكثر من مرّة، وسيعود هذه المرّة أيضاً، لأنه لا يستطيع فكاكاً عن الدير، وقد ربح من خلاله غنائم كثيرة، عادة ما يقدّمها أتباعه، كذلك توافرت له عبره شهرةٌ عريضةٌ لا يريد إهدارها.
هكذا يبدو لنا هيبا الراهب متجسّداً في مقتدى الصدر الذي اختبرناه نحو عقدين. لا يقيم على حال، ولا يقرّ له قرار، فهو ما إن يعلن موقفاً ما، حتى يعلن النقيض في اليوم التالي، وقبل صياح الديك. أنشأ أولى المليشيات بعد الاحتلال، وأباح لأتباعه قتل الخصوم من خلال "جيش المهدي" ذي الرايات السود الذي حلّه بعدما أصبح أمره مفضوحاً، ثم أردفه بمليشيا "سرايا السلام" و"لواء اليوم الموعود" اللتين لم يكن أفرادهما أقلّ شراسةً أو أقلّ ولوغاً بالدم من سابقيهم.
رسم الصدر خطاً رمادياً بينه وبين دولة "ولاية الفقيه"، مخادعاً ومتخادعاً، لكنه كثيراً ما كان يطير إلى قم، ليُظهر ولاءه ويعود محمَّلاً بالوصايا والأوامر التي ترسم له الطريق
انسحب من "العملية السياسية"، وهاجم الانتخابات البرلمانية مرّات ثلاثاً قبل أن تجيء الرابعة. وفي كل مرّة كان يعود إلى الساحة، ويتحالف تياره مع قوى أخرى ليدخل الانتخابات، ويشارك في السلطة، ويحصل على وزاراتٍ لبعض مريديه، ويشكّل "لجاناً اقتصادية" تأخذ حصّتها من المال العام لتوفره له ولأتباعه، من دون رقيب. حرّض على ثوار تشرين "الجوكرية وأبناء السفارات"، وزرع أنصاره من حملة المسدّسات الكاتمة والسكاكين وسط تجمعاتهم، ليقتصّوا منهم بالطرق الشريرة المعروفة، ولكي تُكرَّس "الثورة" له وحده! رسم خطاً رمادياً بينه وبين دولة "ولاية الفقيه"، مخادعاً ومتخادعاً، لكنه كثيراً ما كان يطير إلى قم، ليُظهر ولاءه ويعود محمَّلاً بالوصايا والأوامر التي ترسم له الطريق.
هذا هو "هيبا" الجديد يقف مرّة أخرى مصارعاً طواحين الهواء، معلناً أنه سيقاطع الانتخابات المقبلة، وأنه لن يغطّي أياً من أعوانه ممن يرومون الدخول في حلبة المنافسة الانتخابية، ومعلناً سحب اعترافه بحكومة مصطفى الكاظمي والحكومة اللاحقة. جرى هذا كله بعد أيام قليلة فقط من "بشارته" بأن تياره سيحصد الأصوات الأكثر في الصناديق، وسيسمّي هو رئيس الوزراء القادم. ولهذه المواقف المرتبكة المتناقضة ما يشبهها في سيرة "هيبا" القديم الذي اعترف، في نهاية الأمر، بخيبته، وقرّر الهجرة إلى بلاد لم يسمّها.
هذا "الانقلاب" المفاجئ يعني بداية مفاجآت غير محسوبة، قد تصل إلى حد تغيير المشهد العراقي بكامله
اللافت أن "انقلاب" مقتدى حصل بعد واقعة حريق مستشفى الحسين في مدينة الناصرية الجنوبية الذي لا تزال جراح ضحاياه طريةً ومفتوحةً على مد النظر، وكأنه يقول لنا: انتظروا حرائق جديدة لن تعرفوا من يوقدها، ومن أين تأتي شرارتها التي لن تترك طفلاً أو امرأة أو شيخاً عجوزاً لتضمّه إلى الوقود المطلوب للشروع بمرحلة جديدة ليست الانتخابات سوى واجهتها المكشوفة، مرحلة مجهولة التفاصيل، مجهولة المعادلات، لكنها تضمر، على ما هو واضح، تفكيك بلدٍ له من العمر خمسة آلاف سنة، ووضعه على مشرحة التقسيم والوصاية الأجنبية.
ومقتدى في هذا يحاول النأي بنفسه عن الحرائق والتراجيديات التي عانى منها العراقيون 18 سنة عجفاء، مصطنعاً براءته من كومة الخطايا التي ارتكبها جهاراً نهاراً، وموحياً برغبته في اعتزال السياسة، والانزواء متفرّغاً لأمور الدين، وزاهداً في أمور الدنيا، تماماً كما أراد هيبا الراهب أن يفعل.
وعلى أية حال، هذا "الانقلاب" المفاجئ يعني بداية مفاجآت غير محسوبة، قد تصل إلى حد تغيير المشهد العراقي بكامله، وهو ما عبّرت عنه جهات دولية وإقليمية بدأت تدرك أن بقاء الحال على ما هو عليه يُنذر بمخاطر قد تتجاوز كل الخطوط الحمر المعروفة.