ماتَ الواقع ... سورية في الـ"لا زمان"

08 يناير 2023
+ الخط -

نمشي، نحن السوريين، منذ حينٍ، في جنازة الواقع، فقد مات الواقع في سورية، ولم يبقَ أي معنى للحديث عنه إلا على سبيل الذكرى. مات النظام، وماتت المعارضة، وإذا أرادت كلُّ جماعةٍ أن تُكرِّم ميتها فلتدفنه، هذا أكرم له، ولنا. وفي الأحوال كلها، سيُنجز السوري العادي هذا الدفن بالنيابة، ومن دون مراسم، ومن دون تأبين. ومن أراد الموت له أن يندُب فوق قبريهما، ومن أراد الحياة سوف يساهمُ بحبٍّ في ولادة واقعٍ سياسي جديد، واقعٍ من رحم التنسيقية، ومن رحم عدالةٍ انتقاليةٍ قد تساهم في تبريد قلبِ الأمهات قليلًا. سورية اليوم من دون واقع، قتلَ المقلوبُ فيها كلَّ واقعٍ ممكن، والمقلوبُ هو الأيديولوجي مقلوبُ العادي. ولعل الحكاية السورية طوَّرت طريقةً أكثر دقة في سرد ذاتها كالآتي: ابتكر الشباب السوري مفهوم الثورة في 2011 بوصفها تنسيقية السوريين العاديين الكبرى، ثم صار التنسيق بين المُختلفين فنًا يُنتِجُ فائضًا تواصليًا إبداعيًا، وصار فائضُ التنسيق يعمل على الإنتاج السياسي للحياة. لأول مرة في حياة كثيرين يتم إنتاج الحياة في سورية سياسيًا، فقبل ذلك اعتاد السوريون على إنتاجها اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا على المستوى الأهلي، بل حتى رغبويًا على مستوى الأمل والانتظار وصناعة أفقٍ افتراضي لجمالٍ من النوع الذي يتمتع المقموعون بتخيله.

بهذا المعنى، كانت الثورة مشروع الشباب السوري المعاصر للإنتاج السياسي والمدني للحياة. وهذا، بطبيعة الحال، مفهومٌ صعبٌ إدراكه بمدارك (ومقدّرات) العقل السياسي السوري الكلاسيكي الذي ينتمي إلى ما قبل 2011، عقل النظام وعقل المعارضة معًا (وبطبيعة الحال، عندما نقول معارضة نقصد المعارضة السياسية الكلاسيكية وتفرّعاتها). قتلت المعارضةُ التنسيقيةَ ولم تحل مكانها، ولم تصبح هي واقعًا سياسيًا، ولن تصير؛ وقتل النظام كلَّ السوريين ولم يعد هو واقعًا سياسيًا، ولن يعود؛ فمات الواقع السوري، وكل ما يعانيه هذه البلد ليس إلا لأنه بلدٌ صار من دون أي واقع: سورية تواجه الزمن في غياب الواقع، والواقع نقيض العدم، فلا يعني غياب الواقع إلا واقعة العدم، يعني واقعة الموت فحسب، حيث يوجد الـ "لا زمان" والـ "لا جديد". ولكن "إلى متى"؟ الإجابة النظرية عن هذا السؤال سهلةٌ جدًا وبسيطة: إلى أن يُولَد واقعٌ جديد. ولكن العملي أمرٌ آخر، بل ثمّة أسئلةٌ كثيرة من النوع المعقّد تتفرع من هذا السؤال الأولي: كيف نبتكر لأنفسنا واقعًا جديدًا نعيش فيه ويقينا الموت المبكر المستمر؟ يبدو التفكير في جواب هذا السؤال متطابقًا مع التفكير في إعادة تفعيل آليات الإنتاج السياسي للحياة التي بدأت بها ثورة 2011. يعني، بتكثيفٍ شديد، يمكن أن نقول إن الواقع الجديد يولد من التنسيق، ثم التنسيق، ثم فائض التنسيق، ثم إنتاج سياسي للحياة. والتنسيق يعني، بالضرورة، غياب الواحد في السياسة، فلا شيء في الدينا واحدٌ إلا الفرد، (بل قد لا يكون حتى الفرد واحدًا). وعليه، لا ينتج التنسيقُ جسمًا سياسيًا واحدًا كما يُقال غالبًا، بل تعاونية تقوم على مد جسور الثقة والمحبة والصداقة المدينية روابط، أي ينتج التنسيق تنسيقيةً، ولكنها أكثر راهنية من التي كانت في 2011. ما نريد أن نقوله يمكن تكثيفه في مسألتين: الأولى، موت الواقع، ويعني موت النظام زائد انتهاء صلاحية مفهومي الموالاة والمعارضة وانتشار الموت، والثانية ضرورة ابتكار واقعٍ جديد يمر بمساعي الإنتاج السياسي للحياة.

مات النظام أخلاقيًا وإنسانيًا لأنه مجرم، وأيضًا مات سياسيًا لأنه خصخص السياسة في سورية

مات النظام أخلاقيًا وإنسانيًا لأنه مجرم، وأيضًا مات سياسيًا لأنه خصخص السياسة في سورية. والسياسة، بطبيعة الحال، عموميةٌ يمتلكها السوريون، ولكن النظام قسَّمها حصصًا ووزّعها على إيران وروسيا ومليشيات إرهابية أيديولوجية، حتى نفدت السياسة منه، فصار من دون عمومي، ونظامٌ من دون عمومي يعني عصابة في أحسن الأحوال ليس أكثر، أضاف إليها جرائمَه ومجازرَ كثيرة ارتكبها وتجارة الكبتاغون فصار عصابةً إرهابيةً. وماتت المعارضة أيضًا، لأنها خصخصت السياسة العمومية في سورية، فوزّعت حصصًا على الدول الإقليمية والجماعات الإسلامية والأيديولوجية، وصولًا إلى تحوّلها إلى مكاتبٍ ديكورية لا تمتلك أي نوعٍ من السياسة؛ فماتت. ويعني ذلك، بطبيعة الحال، إمكانية كتابة نعي مشترك لمفهومي الموالاة والمعارضة، الثنائية التي ولدت أصلًا مشوهةً.

لنسأل، ببساطة، من يعارض المعارضون اليوم؟! ومن يوالي الموالون اليوم؟! إذا كان المعارضون لا يزالون يعارضون النظام، فإنه قد مات وصار عصابة. ومن يُعرِّف نفسه مُعارضًا سياسيًا لعصابة غير سياسية لا يفعل شيئًا إلا أنه يُشرعن وجودها، ويعطي لمنافسيه فرصةً لإطلاق توصيفات قانونية مرعبة، مثل "الحرب الأهلية" و"التمرد" وما إلى ذلك. أما الموالاة فهي، في الأصل، مقولة أسّسها النظام استنادًا إلى ملء خزّان الخصوصية بالعلف الأيديولوجي، وقد انهارت أيضًا. لم يعد لهذه العصابة موالاة، وصار ممكنًا أن نسميهم "المتورّطين بخيارٍ مصيري غبي". صار من الممكن القول إنهم الذين زرعوا الشوك في دروب بيوتهم، وزرعوا الرعب والموت والجهل في طريق أبنائهم، أو في طريق الباقي من أبنائهم. صار لصفة الموالي اليوم قيمةً ضئيلةً، بالنظر إلى أنه ذاك الذي دفع فلذات كبده إلى الموت في غفلةٍ من كل معنى، وفي زمن الـ "لا تفكير". وكما لم يعد ملائمًا أن نقول إنه موالٍ بل متورّط، أيضًا لم يعد ملائمًا أن نقول إن له دينًا، أو طائفة، يحدّد بموجبها هويته، أو تنتج له تفكيرًا هوويًا من نوعٍ ما، فقد صار هذا ثانويًا أيضًا أمام الورطة. لم يبق له إلا لملمة ورطته. وفي أحسن الحالات، الاعتذار لإنسانيته والبكاء بندمٍ وحسرة على قبر ابنه الذي رحل فداءً لإجرام الأسد. لم يبق في ذهنه مكانًا للطائفية ولا لغيرها، بل علَّه يسأل نفسه في منتصف ليله البارد كالح السواد: إلى متى؟ قد تبدو الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال مخرجه الوحيد.

إذا كان المعارضون لا يزالون يعارضون النظام، فإنه قد مات وصار عصابة. ومن يُعرِّف نفسه مُعارضاً لعصابة غير سياسية، يُشرعن وجودها

ثمّة مقولة رائعة للكاتب والروائي الأرجنتيني سيزار آريا: "يبدأ أي تغيير من تغيير الموضوع". ويبدو لنا أن تغيير الموضوع هذا ليس عمليةً اعتباطية أو عرضية، بقدر ما يبدو سلسلةَ عملياتٍ معقّدة ومتداخلة تبدأ من تغيير طرق الفهم، والمقاربة، والتحليل، وزوايا النظر، تمهيدًا لوضع موضوعٍ أكثر ملاءمة يحمل إمكانيةَ تغييرٍ أكبر. موضوع المسألة السورية الجديد الذي يحمل إمكانَ تغييرٍ هو "موت الواقع"، ومن ثم ضرورة ابتكار واقعٍ جديد يستند إلى إنتاجٍ سياسي للحياة. تغيير الموضوع في العمق دعوةٌ إلى التفكير في المنطقة التي تقع خارج "الواقعية السياسية"، وهي تحيل دائمًا على السؤال الأهم: كيف نُنتج الحياة سياسيًا؟ إنه سؤال غير المرئيين في سورية، ويوجد الجواب عنه في منطقة عملهم، يعني هو سؤالُ السوريين العاديين الذي يوجد جوابُه في منطقة العمومي اليومي.

B4769262-978B-41E7-8365-77B95D66AED6
مضر رياض الدبس
باحث وسياسي سوري، الرئيس السابق لحزب الجمهورية السوري، له دراسات وأبحاث منشورة، ومن كتبه: مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنية في المستقر الإيماني، وفي ضوء الألم، تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري، وعقل الجهالة وجهل العقلاء