مئوية نزار قباني وأشعار التعبئة
أصبح من حقّنا، مع انقضاء ربع القرن الحادي والعشرين تقريباً، ومضي ثورات التكنولوجيا، والاتصالات، و"السوشيال ميديا"، والذكاء الاصطناعي على قدم وساق؛ أن ننظر إلى الأشعار والأغاني التي كانت تُقال من أجل تعبئة الجماهير، بشيءٍ من التمعّن، والتبصّر، ثم الاحتجاج على ما قد نجده فيها من معانٍ رديئة، ضارّة، والبحث في دوافعها. يُصادف طرحُ هذه الفكرة مع ذكرى مرور مائة عام على ميلاد شاعر سورية الكبير، نزار قباني (1923 - 1998)، الذي كان له الفضل على الحياة الاجتماعية والثقافية والإنسانية في سورية والبلاد العربية، فهو الذي جعل الصبايا والشبّان، حتى غير المهتمّين بالأدب والثقافة، يبحثون عن أشعاره، ويخبّئونها تحت ملابسهم، ويحفظونها، ويتبادلونها سرّاً.. ولكن أشعاره السياسية، التعبوية، لم تكن، مع بالغ الأسف، في مستوى "حتى فساتيني التي أهملتُها فرحتْ به، رقصتْ"، أو تقارِبُ في تألقها "تَرَوْنَهُ في ضحكة السواقي"، فماذا يعني قوله، في مديح حرب تشرين (1973)، مثلاً: يا ابنةَ العم والهوى أُمَوِيٌّ؟
يمكننا هنا أن نَجري على نهج أبي نواس في سخريته من الوقوف على الأطلال "قل لمن يبكي على رسمٍ دَرَسْ/ واقفاً، ما ضرَّ لو كان جَلَس؟".. فنقول: لماذا كان هوى نزار قباني أموياً، وليس عبّاسياً، أو عثمانياً؟ ولكن هذا الأمر لا يمكن أخذُه بهذه الخفّة، فنزار يقصد الانتساب لمدينة دمشق، التي كانت ذات يوم عاصمة للأمويين. وهذا، لعمري، فخر في غير موضعه، لأنه يضايق أهالي المناطق الأخرى من سورية، ويُظهر شاعرنا ذا الشعبية العربية الواسعة كأنه متعصّب لمدينته! ولكن، يبدو أن نزار انتبه إلى هذا التفصيل، فراح يغازل بعض المدن السورية الكبيرة الأخرى، بدليل أنه أنشد، في قصيدة "مفكّرة عاشق دمشقي": فلا خيـولُ بني حمـدان راقصـةٌ، زهــواً، ولا المتنبي مالئٌ حـلبا، وقبـرُ خالدَ في حـمصٍ نلامسـه، فـيرجف القبـر من زواره غـضبا.. إلى أن يصل حدود الشكوى والأسف من أن كل أسيافنا قد أصبحت خشبا.
المزعج، المؤذي، في هذه الأشعار، برأي محسوبكم، أن مئات الألوف من أبناء بلادنا يردّدونها، الآن، متجاهلين أقدميتها، وفقدانها مصداقيّتها، وكأنهم لم يصدّقوا، بعد، أن مشاريع الوحدة العربية التي تَغَنّى بها نزار وغيرُه، قد أصبحت في خبر كان، بل ما عادت الدول القُطْرية الصغيرة قادرة على حفظ وحدتها، فالشعب السوري الذي مضى عليه أزيد من قرن وهو يهجو اتفاقية سايكس بيكو، ويردّد ملء الأفواه "بلادُ العرب أوطاني"، يبدو غير منتبهٍ إلى أن سورية أصبحت مقسّمة إلى أربع مناطق، وأن عودتها إلى ما كانت عليه قبل 2011، أصبحت حلماً بعيد المنال. والمصيبة، بل الكارثة، أنه إذا دعا إنسان سوري محبٌّ لبلده، مشفقٌ على شعبه الممزّق، المشرّد، المنكوب، البردان، العريان، لتوحيد سورية، ينهال عليه عشرات من أبناء البلد نفسه، ويشهرون في وجهه مقاطع من قصيدة أمل دنقل، "لا تصالح"، تلك القصيدة الثأرية، التي تستند إلى قيم قبلية، جاهلية، مستمدّة من حرب الجمل داحس والناقة الغبراء، الحرب التي أُزهقت فيها أرواح الملايين عبثاً. أضف إلى ذلك أن أمل دنقل كان يحذّر من الصلح مع إسرائيل، وليس بين السوريين والسوريين! وقصيدته تستند إلى صقور القبلية الذين لا يصالحون، ولا يطرحون بديلاً عن الحرب، بينما شهد تاريخُ القبائل العربية نفسها مفهوم السفارة، وكثيراً ما انتهت حروب قبلية بالمصالحات، أو التسويات.
مع محبّتنا، وتقديرنا، شاعرنا نزار، وأمل دنقل، ومظفّر النواب، وأحمد فؤاد نجم، إلا أن سباب مظفّر على الحكام العرب لا قيمة له، بل إنه يشيع حالة شعبوية تنأى بمن يردّدها بعيداً عن فهم ما يجري على الأرض، ويجعل أي نوع من العمل السياسي، الدبلوماسي، التفاوضي الذي يحقن دماء الأهل المتحاربين، يبدو وكأنه تآمرٌ على الشعب.