مأساة المهجّرين السوريين في تركيا
لا النظام السوري يقبل عودتهم، ولا تركيا قادرة على الاستمرار في تحمّل عبئهم. هذا لا يخصّ آلافاً من المُهجّرين السوريين من ديارهم، بل ملايين هربوا من جرّاء الحروب المتواصلة، منذ ثورة السوريين من أجل الحرّية والكرامة في عام 2011. لجأوا إلى تركيا على موجاتٍ من أنحاء سورية كافّة، ومع مرور الوقت، ازداد الوضع تعقيداً في البلد المُضيف، الذي شهد خلال آخر أعوام ثلاثة موجةً متناميةً من العنصرية، بسبب التوظيف السياسي للمسألة في أعقاب الانتخابات البلدية عام 2019، وخسارة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) رئاستي بلديتي إسطنبول وأنقرة. ورغم أنّ حزب الشعب الجمهوري المعارض هو البادئ في إثارة القضية واستثمارها بقوّة، خضع "العدالة والتنمية" للمساومة والابتزاز السياسي الذي مارسه مُعارضوه، بدلاً من أن يتصدّى للظاهرة بحزم، ما جعلها تخرج من مسارها، وتتحوّل حالةَ كراهيةٍ عامّة للعرب، الأمر الذي أضرّ بسمعة تركيا وباقتصادها، وأدّى إلى عزوف عربي عن الاستثمار والسياحة في هذا البلد.
تتحمّل السلطات التركية قبل غيرها مسؤولية حماية أرواح (وممتلكات) السوريين، الذين يتعرّضون للاعتداءات، بوصفها دولة مُستضيفة، حسب القوانين والمواثيق الدولية، وكلما ارتفعت حدّة الأزمة، زادت الحاجة إلى التحرّك من أجل إيجاد حلول عقلانية لها، خاصّة أنّها باتت مثل كرة الثلج تتدحرج بسرعة لتهدّد بإلحاق أضرار كبيرة بالسوريين والأتراك في الوقت نفسه، ويمكنها أن تتحوّل حالةً من الكراهية بين الشعبين اللذين ما يجمع بينهما أكبر بكثير ممّا يُفرّقهما، وتُؤكّد الاعتداءات في الآونة الأخيرة على السوريين وممتلكاتهم في أكثر من مدينة في تركيا، وما رافقها من اضطرابات وردّات فعل ضدّ الوجود التركي في شمال غرب سورية، ضرورةَ التدخّل السريع، وعدم ترك المسألة تتفاعل أكثر من ذلك.
تقتضي الأمانة الاعتراف بأنّ تركيا تحمّلت كثيراً من أعباء الهجرة السورية إليها، والتي قاربت أربعة ملايين لاجئ، وشكّلت للسوريين أرض استقبال آمنة، في وقت كانوا يتعرّضون فيه للمجازر من قبل النظام السوري وحلفائه من الإيرانيين والروس، وفتحت لهم حدودها ليدخلوها من دون تأشيرة سفر، واستقبلتهم مدارسها وجامعاتها ومشافيها بلا تمييز عن مواطنيها. ومن التجنّي مطالبتها بأن تتحمّل فوق طاقتها، غير أنّها هي المطلوب منها أن تبادر للعمل من أجل معالجة هذا الملفّ، والخطوة الأولى أن تمارس الضغط الكافي على شريكَيها في مسار أستانة، روسيا وإيران، من أجل وضع آلية لعودة المُهجّرين إلى مدنهم وقراهم، وهذا يمكن أن يريحها من العبء الأكبر، لأنّه سيعيد نحو مليوني مُهجّر من جراء هجوم قوات النظام على ما يعرف بمناطق "خفض التصعيد". ويمكن لها أن تحلّ مشكلة الأعداد الباقية من خلال توفير دعم عربي دولي لإعادة إعمار وتأهيل المناطق المدمّرة، وهناك تجربة تصلح للتعميم عربياً ودولياً، وهي المشاريع السكنية التي بدأتها تركيا بتمويل من دولة قطر في شمال غرب سورية، والتي تضمن العودة الطوعية لمليون مهجّر، حسب التصريحات التركية.
مسؤولية شقاء السوريين وتشرّدهم في شتّى أرجاء العالم، تقع من الناحية القانونية على النظام السوري، وهو الذي يجب أن تسلط عليه الضغوط من أجل إنهاء مأساتهم، ولكنّ تجارب الأعوام السابقة كشفت أنّه يريد مقايضة هذه الورقة كي يحصل على مقابل سياسي ومالي، وآخر اختبار مرّ به كان من القمّة العربية في دورتها التي انعقدت بجدّة في العام الماضي، وكان من بين شروط التطبيع العربية مع النظام السماح بعودة المُهجّرين، ولكنّه لم يُنفّذ ذلك، وتلعب موسكو وطهران دوراً مهمّاً في عرقلة تسوية هذه المسألة، التي تحوّلت من قضية سياسية ومأساة إنسانية إلى مادّة للمساومة.