مأدبة إفطار على شرف الشيخ جرّاح
في ابتكار كفاحي ملهم، أبدعته روح المقاومة الشعبية المتدفقة من أعطاف مدينة القدس، استخدم المقدسيون، قبل نحو ثلاث سنوات، أداةً نضاليةً خلاقة، وغير مسبوقة، في فضاء الدفاع عن الذات الوطنية والحرية الدينية، من خلال إقامة الصلوات على الأرصفة، وعند مداخل بوابات المسجد الأقصى، رفضاً لسياسات الاحتلال وضع كاميرات مراقبة، وأجهزة سيطرة إلكترونية، على مداخل الحرم القدسي، الأمر الذي حمل المحتلين حمْلاً على التراجع من دون قيد أو شرط، ومن ثمّة تسجيل سابقة فوز نادرة في تاريخ الصراع المديد.
وفي أواسط شهر رمضان الحالي، دوّن الشباب المقدسي نصراً جزئياً ثانياً في باب العامود، عندما واصلوا، بثباتٍ يملأه العنفوان، التمسّك بحقهم المشروع في إحياء تقاليدهم الرمضانية على مدرجات أشهر بوابات البلدة العتيقة، فأرغموا القوات المدجّجة بالقوة المجرّدة وبالغطرسة، على الانكفاء مرة أخرى، وذلك من دون أن يرموا حجراً أو يطلقوا رصاصة، فكان ذلك إبداعاً كفاحياً جديداً، مستلهماً من روح انتفاضة الحجارة الباسلة، ومؤسّساً على فلسفة عدم الانجرار إلى لعبة القوة التي تتلهف لها إسرائيل.
ها نحن اليوم أمام إبداع كفاحي ثالث، تتجلّى مظاهره الباذخة في حي الشيخ جرّاح، المطلّ على باب العامود، من خلال إقامة مأدبة إفطار متواضعة، ليس تضامناً مع العائلات المقدسية المهدّدة بالطرد من بيوتها فحسب، وإنما أيضاً دفاعاً عن عروبة المدينة الجاري تهويدها، وتشبثاً بهويتها الحضارية، الأمر الذي أوجد مشهداً كفاحياً لا سابق له في تاريخ حركات التحرّر، أساسه فعلٌ مدنيٌّ سلمي مقاوم، يتسع لأوسع المشاركات الممكنة، وغير المكلفة بالضرورة، ويستجيب، في الوقت ذاته، إلى شروط المكان والزمان، وإكراهات الظروف الموضوعية.
وأحسب أن تلك المأدبة الرمضانية التي أثارت حفيظة قطعان المستوطنين، لمّا تكرّرت في اليوم التالي، كانت بمثابة مأدبةٍ تكريميةٍ مقامةٍ على شرف الأمير حسام الدين بن عيسى الجراحي، طبيب صلاح الدين الأيوبي، وأحد قادته المظفرين، المدفون في الحي الذي يحمل اسمه، مأدبةٍ تشارك في إقامتها مواطنون مقدسيون من الأحياء المجاورة، وفعاليات محلية، وشباب من عرب 48، بمن فيهم طلاب عرب يدرسون في الجامعة العبرية القريبة من الشيخ جرّاح، الأمر الذي أضفى على هذه المأدبة بعداً وطنياً جامعاً، وجلب لها زخماً مضاعفاً، وطوّبها أداة كفاحية ملهمة.
لم يكن المشهد المقاوم في "الشيخ جرّاح" نسخة طبق الأصل عما جرى أمام بوابات الأقصى، أو وقع في باب العامود، إلا أنه ظل ينتسب إلى أرومة المقاومة الشعبية المتواصلة ذاتها، صفحةً مضافة إلى سجل الانتفاضة الأولى، تلك الانتفاضة المستمرّة بوتائر مختلفة باختلاف البيئة السياسية المتغيّرة، المتواصلة بأدواتٍ نضاليةٍ متنوعة، المتنقلة بين دروب نضال متعدّدة، بما في ذلك دروب الصمود والتمكين والمقاومة الشعبية، فضلاً عن مسارات الدبلوماسية الهجومية، في نيويورك ولاهاي وجنيف، ناهيك عن الواقعية الثورية والاعتدال، ومنظمات حقوق الإنسان والميديا والأكاديميا، وقطاعات نوعية من الرأي العام.
وعليه، بدت الصورة الكفاحية المتجلية في الشيخ جرّاح، إثر تلك المأدبة، أشد مضاءً من سابقتها في باب العامود، وأجزل منها معنىً في البلاغة الوطنية، ففيما بدا المشهد على مدخل البلدة القديمة، على روعته، فقيراً في خطابه السياسي، وبلا روافع تنظيمية، وغير قادر على حمل متطلبات الاشتباك حول مسائل ثقيلة الوزن، كحماية صناديق الانتخابات التشريعية مثلاً، بدا المشهد من "الشيخ جرّاح" مفعماً بروح قتالية متوثبة، ومحمولاً على أكتاف قضية كبيرة، ظاهرها الدفاع عن البيوت المهدّدة بالمصادرة، وفي قلب القلب منها الذود عن حاضر القدس وعن مستقبلها، عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة.
ذلك أن المعركة في الشيخ جرّاح، على عكس نظيرتها في باب العامود، مفتوحة، محقّة وعادلة من دون جدال، مشروعة إلى أبعد الحدود، وباعثة على تنديد دولي عارم إزاء فعلة عنصرية وقحة، إلى جانب أنها معركة قابلة للاتساع، والبناء عليها مدماكاً فوق مدماك، في صرح بنية مقاومةٍ منهجيةٍ عريضة، تعد بمواجهاتٍ أكثر سخونة، تستقطب مزيدا من الناس والفصائل والقوى الشعبية. وفي ذلك كله ما يستحق المراهنة على هذه المأدبة المقامة تكريماً لرمزية الشيح ابن عيسى الجرّاح.