ليس الشعب السوري قاصراً

08 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

بعد سقوط النظام في سورية، هرعت دولٌ عربية وإقليمية ودولية إلى إعلان دعمها الشعب السوري في سبيل تحقيق "انتقال سلمي للسلطة". قد يبدو المشهد للوهلة الأولى مؤشراً إيجابيّاً على بداية صفحة جديدة ومقدّمة لعودة سورية إلى الساحتين، العربية والدولية، إلا أن الواقع يحمل دلالات مغايرة، خاصة عندما تتجلّى لغة استعلائية تُصرّ على فرض وصاية على شعب أثبت ولا يزال يثبت جدارته وإمكاناته.

بدا مشهد توافد البعثات الدبلوماسية أشبه بمزاد دولي مفتوح على جراح شعبٍ عانى الويلات سنوات، حيث يسعى الجميع إلى ضمان مصالحه قبل أي اعتبار آخر. وكأن عقود القتل والدمار التي مرّ بها الشعب السوري مجرّد تفاصيل هامشية في معادلة المصالح الدولية.

أثارت هذه الهرولة المفاجئة، التي جاءت بعد عقود من الصمت أو التواطؤ، تساؤلات حول النيات الحقيقية وراء هذا "الدعم" المزعوم، خاصة في محيط عربي يعيش هاجس الخوف من مصيرٍ مشابه لمصير الأسد، وإقليميّاً من إيران، التي ما زالت تحاول استيعاب صدمة هزيمتها في سورية. كانت خسارة إيران، الحليف الأكبر للنظام السوري، ضربة موجعة لمشروعها الإقليمي. ورغم خطاب خامنئي المستمر عن "تحطيم الأعداء تحت أقدام المجاهدين"، إلا أن الحقائق على الأرض تثبت العكس، حيث تآكل مشروعها الإقليمي مع تراجع نفوذها داخل سورية.

وجدت الدول الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، باباً جديداً لتدخل إلى الساحة السورية عبر شعارات براقة مثل "الانتقال السلمي للسلطة"، "حقوق الأقليات"، "حقوق المرأة"، "إعادة الإعمار". لكن أين كان هذا الحرص على حقوق الإنسان عندما كان الشعب السوري يُذبح ويُعذب سنوات طويلة؟ أين كانت هذه الشعارات الإنسانية عندما كانت نساء يُغتصبن، وتنتهك أعراضهن، وعندما كانت البراميل المتفجّرة تُسقط على المدنيين العُزّل، وتُحوّل السجون إلى مقابر جماعية؟ مجازر الكيماوي، فضلاً عن مجازر أخرى لا حصر لها، وثقتها لجان التحقيق الدولية، ومع ذلك اكتفى المجتمع الدولي بالصمت أو بإصدار إدانات لفظية خجولة، من دون أي تحرّك جدي لحماية الشعب السوري.

يواصل الإعلام الغربي وصف ما جرى في سورية "حرباً أهلية"، متجاهلاً جوهر القضية، أن ثورة شعبية قامت ضد نظام استبدادي حاول جاهداً تحويلها إلى صراع طائفي وعرقي

بعد أن أسدل الستار عن حقبة شديدة البشاعة، وخرجت فظائع النظام إلى العلن، بدا العالم مفاجأً بحجم الجرائم المرتكبة داخل السجون وخارجها، وكأنه لم يعلم بحدوثها أو حتى يتوقعها. في عام 2017، أفادت تقارير أميركية بوجود محرقة للجثث في سجن صيدنايا العسكري، حيث كان النظام يحرق جثث المعتقلين الذين يعدمهم. ورغم فداحة هذه الجرائم، اكتفت الأمم المتحدة بالتصريح بعجزها عن التحقق من ذلك بسبب منع النظام السوري زيارة السجون.

لنتذكّر جميعنا المساعدات الغربية، كيف كانت تُقدّم على طبق من فضّة للنظام، في وقت كان الشعب السوري المحاصر يُترك لمصيره، فالدول الغربية التي أعلنت دعمها الإنساني للسوريين خصّصت ميزانيات سنوية، لكن هذه كانت تصل عبر الهلال الأحمر التابع للنظام، ليُسيطر عليها جنوده ويستفيد منها، بينما يُترك السوريون المحاصرون للمجاعة والخذلان. ورغم علم الجهات الدولية بهذه الحقيقة المأساوية، استمرّ هذا الوضع سنوات من دون أي تغيير.

ويواصل الإعلام الغربي وصف ما جرى في سورية "حرباً أهلية"، متجاهلاً جوهر القضية، أن ثورة شعبية قامت ضد نظام استبدادي حاول جاهداً تحويلها إلى صراع طائفي وعرقي. لكن الشعب السوري، بوعيه وإصراره، أفشل هذه المخطّطات، وظل متمسكاً بوحدته الوطنية، رغم محاولات التفتيت والتقسيم.

وهذه زيارة وزير الخارجية الفرنسي ونظيرته الألمانية دمشق نيابة عن الاتحاد الأوروبي، ولقاؤهما بالحكومة الجديدة، أثارت علامات استفهام عديدة، لكن الأكثر إثارة للدهشة قرارهما الاجتماع أولاً بممثل عن المسيحيين قبل لقائهما مع الحكومة. لماذا كان من الضروري أن يزور وزراء خارجية دول علمانية عظمى ممثلًا لمكون ديني واحد فقط، ويتجاهلون باقي المكونات، بغض النظر عن حجمها أو تأثيرها؟

المجتمع الدولي، وبدلًا من التركيز على تحميل النظام المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، يحاول مجدّداً تحويل القضية إلى صراع إقليمي ودولي

في وقتٍ يُصر الغرب على ادّعاء حرصه على حقوق الأقليات، يكشف هذا الموقف الانتقائي عن ازدواجية في المعايير. على الرغم من أن القيم التي يروّجها الغرب تُشير إلى المساواة والعدالة بين جميع المكونات المجتمعية، فإن ممارساته في سورية تتناقض بشكل فاضح مع هذه القيم. وعلى الرغم من أهمية مسألة حقوق الأقليات، لا يمكن اعتبار زيارة كهذه "دعماً كاملاً" للأقليات من دون الأخذ في الاعتبار معاناة بقية الشعب السوري، فالزيارة تطرح تساؤلات مشروعة: لماذا يجري التركيز على فئة معينة دون غيرها، فيما تعاني جميع الفئات من الشعب السوري؟ هل تهدف الزيارة فعلاً إلى تحسين وضع الأقليات، أم أن الهدف هو استخدام هذه الفئة حصانَ طروادة للتأثير في مجريات الأمور داخل سورية؟

يكشف هذا السلوك بجلاءٍ عن ازدواجية المعايير التي يتبعها الغرب في تعامله مع القضايا الإنسانية والسياسية في المنطقة. رغم ادّعاء دعم حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأقليات، لكن الدعم غالباً ما يكون انتقائيّاً، ويُركز على فئة واحدة، بينما يتغاضى عن معاناة بقية الشعب السوري الذي يواجه الدمار والفقر والعنف، بما في ذلك غالبية السنّة والأكراد وغيرهم.

المشكلة أن الغرب غالباً ما يستخدم "حقوق الأقليات" أداة لتحقيق أهداف سياسية خاصة، قد تكون مرتبطة بتقوية النفوذ في مناطق معينة أو تحريك الملف السوري بما يتماشى مع مصالحه. ويتجاهل هذا التوجه تبعات هذه السياسات على بلدٍ مُتعدّد المكونات مثل سورية. فبدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية قد يؤدي هذا السلوك إلى تعميق الانقسامات في المجتمع السوري، ما يُفاقم النزاعات الطائفية ويعيق أي جهود حقيقية لتحقيق السلام الدائم في البلاد.

رغم كل التحدّيات، يملك السوريون من الوعي والإرادة ما يجعلهم قادرين على تجاوز المحن وصناعة مستقبل أفضل

إلى متى ستظل سورية ساحة لتصفية الحسابات السياسية بين روسيا والغرب؟ ركّز خطاب المسؤولين الأوروبيين في لقاءاتهم في دمشق على مسؤولية روسيا عمّا حلّ بالسوريين، وكأن الصراع في سورية مجرّد حرب بالوكالة، في حين غاب الحديث الجدّي عن محاسبة بشار الأسد. وكأن السوريين محكوم عليهم بالبقاء ضحية هذه التسويات الدولية، خاصة أن المجتمع الدولي، بدلًا من التركيز على تحميل النظام المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، يحاول مجدّداً تحويل القضية إلى صراع إقليمي ودولي. ما يحتاج إليه السوريون اليوم ليس مجرّد إدانات أو بيانات عائمة، بل محاسبة جدّية للنظام وضمان ألا تتحول سورية مرة أخرى إلى ساحة لتسوية صراعات القوى العظمى في المرحلة المقبلة.

في ظل ذلك كله، على السوريين اليوم أخذ الحيطة والحذر في ترتيب أوراقهم الداخلية والخارجية، وفي التعامل مع الوفود الغربية. ما كان على المجتمع الدولي أن يفعل هو تقديم اعتذار حقيقي للسوريين عن سنوات صمته وتواطئه، بدلاً من محاولة إملاء شروط المرحلة المقبلة. اليوم، وبعد أن حرّر الشعب السوري نفسه بدمائه وتضحياته، لا يحقّ لأي جهة أن تملي عليه شكل مستقبله. ليس الشعب السوري قاصراً. هو قادر على رسم ملامح دولته العادلة التي تتسع للجميع. رغم كل التحدّيات، يملك السوريون من الوعي والإرادة ما يجعلهم قادرين على تجاوز المحن وصناعة مستقبل أفضل.

حنان البلخي
حنان البلخي
ناشطة سياسية، من أسرة التلفزيون العربي، عضو سابق في الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري، سفيرة الائتلاف الوطني السوري في النرويج من 2012 - 2016.