ليتنا دِيَكَة لنصيح بحرّية

29 يناير 2021
+ الخط -

عند تقدير الموقف بعد مرور عقد على اندلاع ثورات الربيع العربي، الذي لم يزهر قط، أوعند تقييم ما أنجزه المواطن العربي الثائر والغاضب على طريق نيْل مطالب عادلة، لم يسع لها بالتمنّي وحاول أخذها غلابا، لا يسع المرء إلا أن يغبط موريس أو يحسده. وموريس هذا، يا سادة، ديك فرنسي كسب قبل عام معركة قضائية، نال فيها حقه الكامل في الصياح متى شاء. وبتعبير آخر، صار للديك الفرنسي موريس حق التعبير بحرية، أو على الأقل فتح حلقه بالصياح من دون قيود. والمفارقة أن موريس ورفاقه، نعم ورفاقه من الحيوانات، حققوا هذا الانتصار، بينما يجري مداد الأقلام العربية بحثاً عما تحقق بعد عشر سنوات من "الربيع العربي"، وهل انتصر المواطن العربي في أبسط معاركه للعيش بكرامة والتعبير عن الرأي بحرية. معركة موريس لم تبدأ قبل عشر سنوات، مثل معركة المواطن العربي الغلبان والمقهور الذي انفجر قبل عشر سنوات، بعد كبت وقمع دام منذ ما يُسمى الاستقلال الوطني، ذلك أن ما نال المواطن والشعوب العربية، قبل ذلك التاريخ، يندرج في باب الجهاد والنضال من أجل التحرّر والانعتاق من نير الاستعمار الأجنبي.
بدأت حكاية الديك موريس قبل ثلاث سنوات في سان بيير دي أوليرون، وهي بلدة تقع على جزيرة قبالة ساحل فرنسا الغربي، عندما رفعت امرأة تدعى كورين فيسو، وآخرون، دعوى قضائية على مالكة الديك، بدعوى أنه يصيح بصوت عالٍ، ما يعكر عليهم صفو الإجازة وأوقات الراحة التي ينشدونها في جزيرةٍ معزولةٍ، يقصدونها منتجعا للاستجمام، وملاذا للاسترخاء هرباً من ضجيج المدن وضوضاء المدنية. وبعد فشل الوساطات المحلية، وتعثر المبادرات الأهلية لإيجاد مخرج بين الجيران ومالكة الديك موريس التي دافعت بنبل الفرسان عن حق الديك في الصياح، أي التعبير، وصل الخلاف إلى ميدان القضاء، وتنقلت القضية منذ العام 2017 من محكمة إلى أخرى، في عراك قانوني طويل وساخن، عنوانه إما قمع الديك موريس، أو الانتصار لحريته في التعبير. وعلى هامش المعركة القانونية، تحرّك المجتمع المدني المحلي، وحشد من المتضامنين الدوليين لدعم الديك المضطهد أو المقموع، وبادر نحو 140 ألف شخص للتوقيع على عريضة احتجاجٍ تطالب بإنقاذ موريس (Save Maurice). وسارت مظاهرة ارتدى المشاركون فيها قمصاناً طُبعت عليها صور "المناضل" موريس مع شعار "دعني أغني". وشهد العام الماضي جلسة ساخنة في ردهات محكمة روشفور، غاب عنها المتهم موريس، وحضرتها صاحبته كورين فيسو، التي دافعت عنه بالقول "إنه ديك، والديوك تحب الغناء"، وانتهت المحاكمة برفض القاضي شكوى التلوث الضوضائى، وأمرت المحكمة المشتكين بدفع 1200 دولار تعويضا للديك موريس، ربما بسبب ما تعرّض له من ضغط نفسي أو تشويه للسمعة.
لم ينته الأمر هناك، إذ تردّد انتصار موريس ومناصريه على الحاقدين والحانقين من الجيران، تحت قبة البرلمان الفرنسي، سليل "الجمعية الثورية" التي شكلت أول برلمان بعد الثورة الفرنسية، عام 1789، وانتصر نواب الأمة للديك موريس، وغيره من الحيوانات الريفية، عندما أقرّوا مشروع قانون للحفاظ على "التراث الحسي للريف"، وانتصروا لحرية حيوانات الريف في الصياح والنهيق والنعيق.
المُؤسف في الأمر أن الديك موريس لم يحتفل بالنصر المظفر، فقد مات في يونيو/ حزيران من العام الماضي، عن عمر ست سنوات، قضى نصفها في ميادين الدفاع عن الحق في حرية التعبير له، ولغيره من حيوانات الريف، الضفادع والبط والأغنام، وحتى الحمير التي كسبت الحق في النهيق بلا قيود. وانتصر موريس أيضا لدماء زميله مارسيل، ديك أرديش، في جنوب شرق فرنسا، الذي قضى نحبه العام الماضي، بعد إطلاق النار عليه على يد جار غاضب من صياحه.
انتصر الديك موريس في معركة حرية الصياح، وما زال صوت العربي مخنوقاً في قنّه، فما زال هذا "الوطن الممتد من البحر إلى البحر سجون متلاصقة سجان يمسك سجان"، بتعبير الشاعر مظفر النواب.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.