ليبيا والإقامة في المربع الأول

13 مارس 2023
+ الخط -

كلما لاحت في الأفق الليبي بوادر اتفاق يخرج البلاد من النفق الذي تعيش فيه منذ سنوات، تصر الأطراف الفاعلة على إعادة الوضع إلى المربع الأول، وسط اصطفافاتٍ يُعاد تشكيلها في كل مرّة بما يخدم استمرار هذه الأطراف في مناصبها، مستفيدةً من المزايا المادية والسياسية، والاستماتة من أجل بقاء الوضع كما هو أطول فترة ممكنة، ليضمن متصدّرو المشهد الاحتفاظ بكراسي تمسكوا بها أكثر من عشر سنوات، وغيّروا من أجلها كل الثوابت والقناعات، وطوّعوا من أجلها القوانين واللوائح والاتفاقيات.
مضت سنوات عديدة من دون أن يتمكّن كل من مجلسي النواب والدولة، أو هكذا سوّقوا، في الوصول إلى كلمة سواء بخصوص التعديل الدستوري الذي يمكن أن يكون الأساس الذي يتم عن طريقه إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وعجزت معظم الدول العربية والغربية المتدخلة في الشأن الليبي عن إنجاح جهود الوساطة التي رعتها، على كثرتها. وتبادل المجلسان الاتهامات في هذا الفشل، ووجدا في الاتفاق على الاختلاف الطريق الوحيد الضامن للبقاء، خصوصا أن نقطتي أحقّية مزدوجي الجنسية والقادة العسكريين في الترشّح للانتخابات الرئاسية جديرة بالاختلاف، ليستمر الحال على ما هو عليه، حتى بدا لليبيين أن حل المشكل، وبالتالي الوصول إلى الانتخابات المنتظرة، يكمنان في اتفاق المجلسين على هذ التعديل.
اصطدمت جميع محاولات الوساطة بتعنّت الطرفين، وإصرار كلٍّ منهما على موقفه، ملقيا التهمة على الطرف الآخر. وفجأة وبقدرة قادر، زُفّ خبر الاتفاق على التعديل الدستوري، فوافق النواب على هذا التعديل في جلسة المجلس التي عُقدت لهذا الغرض، لتتم إحالة المقترح إلى مجلس الدولة، الذي أقرّه أيضا، رغم معارضة بعض من الأعضاء. وهو اتفاقٌ كان لمبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، عبدالله باتيلي، دور فيه، من دون أن يدري، ونجح في ذلك، رغم فشل جميع السابقين، من دون أي مجهود يبذل، جاء ذلك عندما استعرض باتيلي نتائج عمله لحل الأزمة الليبية أمام مجلس الأمن في 27 فبراير/ شباط، والتي لخّصها بقوله "لا يسع المرء إلا القول إن أغلب مؤسسات الدولة فقدت شرعيتها منذ أعوام". وأفاد بأنه قرّر إطلاق مبادرة تهدف إلى التمكين من إجراء الانتخابات التشريعية والتنفيذية خلال العام الحالي (2023). ومن أجل هذا الهدف، سيتم إنشاء لجنة رفيعة المستوى في ليبيا، "وستكون ممثّلة للجميع". وركّز الرجل في إحاطته على أن مجلسي النواب والدولة لم ينجحا في التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات. 

يعرف الليبيون جيدا أن المليشيات توغّلت في الدولة، حتى أصبحت هي الدولة

لم تختلف إحاطة المبعوث الأممي الحالي عن سابقاتها، كما لم تختلف وعودُه عن وعود من سبقوه. وبالتأكيد، لن تختلف عمّن سيأتي بعده، فالعبارات نفسها والانتقادات تتكرّر، وأعضاء مجلس الأمن يستمعون إليها، وهم، أو أغلبهم، يعرفون الداء ويعرفون الدواء الناجع للشفاء، دواء كان يمكن وصفه منذ كان الداء مجرّد وعكات صحية، وقبل أن يتحوّل إلى مرض مزمن، سيكلف علاجه الكثير. ومع ذلك، وفي كل إحاطة، يتكرّر التشخيص نفسه، وكأنه يُعرض للمرّة الأولى، وكأنما المواطن لا يعرفه تمام المعرفة، فالليبيون يعرفون جيدا أن المليشيات توغّلت في الدولة، حتى أصبحت هي الدولة، وأنها رغم مسمّياتها التي أطلقتها على نفسها أو أطُلقت عليها، ليست لها أي صبغة قانونية، وأنها تعتدي على مؤسسات الدولة، وتبتزّ الوزراء، حتى أصبح إرضاء هذه المليشيات غاية كل مسؤول يريد البقاء في منصبه، وأُغدق المال على زعمائها، وأصبح كسب ولائها أمرا لا مناص منه. كما أن الليبيين يعرفون أيضا أن كل الأجسام السياسية الموجودة، والتي تدّعي الشرعية، هي أصلا منتهية الصلاحية، ويعرفون أيضا، من دون الحاجة إلى مبعوث أممي، أن مجلسي الدولة والنواب هما أحد أسباب المشكلة، وأنهما يقتاتان على اختلافهما، ويعرفون أيضا إن رئيس الحكومة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، ينطبق عليه المثل "يتمسكن حتى يتمكّن"، ففي بداية تكوين هذه الحكومة، أظهر دبلوماسية ووعوداً بالوصول بالبلد إلى الانتخابات المنتظرة، وأن حكومته لن يكون لها أي هدف آخر سوى الإعداد للانتخابات، وتعهد بعدم الترشّح للانتخابات الرئاسية، قبل أن يجد مخرجا لهذا الوعد، قائلا إنه وعد أخلاقي وليس قانوني، وأصبحت الانتخابات في عهده أثرا بعد عين.

على الرغم من أهميته، إلا أن هذا الاتفاق يبدو أنه جاء متأخّرا، وأنه لم يعد بالأهمية ذاتها التي كان عليها

عموما، لم ينتظر مجلسا الدولة والنواب كثيرا بعد سماعهما باتيلي، حتى خرجا باتفاق على التعديل الدستوري، كان ضربا من الخيال قبل هذه الإحاطة، ولكن يبدو أن الاستشعار بالخطر والخوف من سحب البساط منهما جعلهما يسرّعان بإذابة الثلج الذي استمرّ سنوات صامدا وصلبا، رغم كل المحاولات المحلية والإقليمية لإذابته. وعلى الرغم من أهميته، إلا أن هذا الاتفاق يبدو أنه جاء متأخّرا، وأنه لم يعد بالأهمية ذاتها التي كان عليها، خصوصا أن سفارة الولايات المتحدة في ليبيا غرّدت: "على القادة الليبيين الرئيسيين التعاطي مع المقترح بطريقة بناءة". وأضافت في تغريدة أخرى أن "مقترح الممثل الخاص للأمم المتحدة يحفّز الأجسام السياسية الليبية". وقد تطابقت، كالعادة، آراء السفارة البريطانية في ليبيا مع ما طرحته نظيرتها الأميركية، حيث غرّدت أنه "على قادة ليبيا احترام ضرورة التسوية والاتفاق على شروط الانتخابات واحترام نتائجها".
وفي السياق نفسه، يبدو أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة لم يرق له اتفاق مجلسي النواب والدولة، وهو يعي تماما أن اختلافهما رحمة له، وأن أي اتفاق يعني، وبكل بساطة، أنه سيكون الخاسر الأول، لأن هذا الاتفاق قد يقود إلى انتخابات لن يكون له دور أو حظوظ فيها، فسارع إلى القول إن أي اتفاق على القاعدة الدستورية بين المجلسين يجب أن يعرض على الليبيين للاستفتاء، وهو على يقين أن ذلك لن يكون، وإن حصل، فسيستمر سنوات، وسيناله ما نال غيره من الاختلاف، وسيقود إلى مزيدٍ من التشظّي.
الخلاصة أن الوضع الليبي سيشهد، في القريب، تغيرات عديدة، ولن يكون كما كان منذ سنوات، إلا أنه من غير الممكن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه المشهد، وإن المجال بات مفتوحا لكل الاحتمالات، غير أن المؤكّد أن المجتمع الدولي سيكون له رأي مختلف عن الطبقة السياسية، التي ما زالت تنظر إلى مصالحها الضيقة، وغير مستعدة لتقديم أي تنازلٍ من شأنه أن يصل إلى حلّ ليبي ليبي، بعيدا عن التدخلات الخارجية.