ليبيا في التلاقي التركي ـ المصري
على الرغم من تأخّر التنسيق بين مصر وتركيا بشأن ليبيا، فإنه مع التحضير لتجاوز التوتر بين البلدين، توسع اتصالهما بالمجموعات السياسية في الشرق والغرب، ما يزيد من احتمالية ظهور سياسات مشتركة لدعم المسار السلمي، غير أن تفاقم الانقسام الداخلي وتصاعد النفوذ الدولي، يثير النقاش حول احتمالية نجاح المساهمة المشتركة في الحل السياسي والأمن الإقليمي، وهنا، تبدو أهمية تناول مساحات التقارب ومدى كفايتها لتوفير مناخ سلمي، يكون بمقدوره التمهيد للحل السياسي، وتتيح مناقشة اتجاهات تأثير المتغيرات المحلية والخارجية الفرصة للاقتراب من عوامل تسهيل أو إعاقة سياسات الدولتين.
وعلى مدى سنوات قليلة سابقة، تلاقت مساهمات تركيا ومصر على وقف تمديد الحرب بين المناطق الليبية، وبقاء الحد الأدنى لهيكل السلطة. وقد تناول مقال سابق للكاتب في "العربي الجديد"، بعنوان "تركيا ومصر وفرصة التنسيق في ليبيا، 16/ 9/ 2022"، إرهاصات تأثير التقارب بين البلدين على الانفتاح في التعامل على الشؤون الليبية، ما يثير توقعات بتزايد الدور بعد تلاقي الخطاب السياسي على أهمية استقرار ليبيا. وبجانب تعدّد الاتفاقات الاقتصادية والدفاعية لكلٍ من البلدين مع ليبيا، توفر مرونة الاستجابة للأزمات الطارئة الفرصة للتأثير السياسي، فكما وضحت فاعلية تركيا في احتواء بعض الاشتباكات المسلحة في طرابلس، كان واضحاً دور مصر في منع انهيار الأمن بعد سيول درنة، ما يكشف عن إمكانية تكامل السياسات.
ومع بداية العام الجاري (2024)، تصاعد التنسيق بين الأطراف الثلاثة (مصر، تركيا والليبيون)، حيث نشطت اللقاءات المختلفة حول مناقشة قضايا الأمن والاستقرار، فيما تأخر الحديث عن الاتفاقات والمصالح الأخرى، وهو ما يمثل تطوراً نوعياً في الفهم المشترك للحل السلمي. وفي سياق التحضير، لزيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، القاهرة، زار مسؤولون مصريون وأتراك طرابلس، لمناقشة قضايا مماثلة، تتعلق بترتيب الدولة لمرحلة السلام، وخصوصاً تمهيد الطريق للانتخابات، سواء بتوحيد الحكومة أو تعديلها، ووحدة الأراضي الليبية ودعم المؤسسات الانتقالية، وخروج القوات الأجنبية.
تجري التطورات في سياق حدوث انتقال في السياستين الخارجيتين، المصرية والتركية، يقوم على تقارب منظور للمصالح الإقليمية
ويساعد تتابع الاتصال وتقاربه زمنياً على تطوير الاتصال السياسي مع المسؤولين على مستوى الدولة، فقد شملت زيارات الوفد المصري ثم وزير الخارجية التركية، هاكان فيدان، لطرابلس، في مطلع فبراير الماضي، لقاءات مع ممثلي الحُكم المؤقت، بما يُعطي انطباعاً بانفتاح البلدين على كل الجهات الليبية، ويمثل فتح القنصلية التركية في بنغازي مؤشراً على تحسين العلاقة مع الشرق الليبي.
تجري هذه التطورات في سياق حدوث انتقال في السياستين الخارجيتين، المصرية والتركية، يقوم على تقارب منظور للمصالح الإقليمية. فقد حدث ما يمكن وصفه بالتحوّل في النظر للوضع الليبي والانفتاح المُتزامن على كل الأطياف والفرق السياسية والعسكرية. ليضفي تحسن العلاقات نوعاً من الاستجابة المشتركة للتحديات الإقليمية، سواء تلك المرتبطة بالشؤون الليبية أو الآتية من المشكلات الإقليمية الأخرى. ويتعزّز هذا التغير مع الاهتمام بتوفير بيئة إقليمية لتجاوز القيود السابقة، وخصوصاً ما يتعلق بالتواصل مع كل الأطراف الليبية، لتشمل الإمارات العربية، وتطوير قطر لاتصالاتها مع مجلس النواب، بحيث تتكون حاضنة لدعم المسار السياسي.
وبشكل عام، يرجع التأسيس للمرحلة الحالية لأعوام مضت، بحيث وضح الانفتاح على الحل السياسي ووقف الحرب الأهلية، حيث بدا حرص البلدين على تبني سياسة منضبطة بعد زوال التهديد على طرابلس، مايو 2020، تقوم على منع التوتر وامتصاص نتائج خروج خليفة حفتر من المنطقة الغربية. فقد صاغت مصر مبادرة في فبراير/ شباط 2017، اعترفت فيها بدور المجلس الأعلى للدولة كجهة رسمية ليبية، ثم طورت موقفها في "إعلان القاهرة" في يوليو/ تموز 2020، لتكشف المرحلة اللاحقة الأساس للتعامل المصري مع الأطراف الليبية، حيث تواصلت مباشرة مع ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. وفي ذات السياق، وضعت تركيا أسس سياستها الخارجية في البيان الانتخابي (2018)، حيث ركزت على تطوير العلاقات الدبلوماسية مع المنطقة العربية، على قواعد المكاسب المشتركة الثنائية والجماعية. من الوجهة العربية، تعمل السياسة التركية على توسيع مصالحها مع جنوب المتوسط، ليتضافر انفتاح علاقاتها مع مصر والدول العربية في دعم منظور إقليمي لتسوية الأزمات القُطْرية.
يمثل انتهاء حرب طرابلس نقطة مهمة في تغير منظور البلدين للوضع في ليبيا
على أية حال، اتسمت سياسة مصر وتركيا بالتباطؤ في بناء تصور لانتقال ليبيا للسلام، واكتفى البلدان بالمشاركة في الاجتماعات الدولية المتعلقة بليبيا دون طرح مسار مستقل يعبر عن الاهتمام الإقليمي. وتوقف تركيا عند دعم وقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، دون طرح مبادرات لتطوير المسار السلمي، كما اكتفت مصر برعاية الحوار بين الأطراف الليبية حول القاعدة الدستورية، الاقتصاد والشؤون العسكرية. لتستغرق المشاورات الدولية البلدين، دون إعداد رؤية مشتركة لنقل ليبيا من الوضع الهش.
على أية حال، يمثل انتهاء حرب طرابلس نقطة مهمة في تغير منظور البلدين للوضع في ليبيا. ويمكن قراءة تحرّك المسؤولين الليبيين، بين القاهرة وأنقرة، نوعاً من القابلية للتعاون. فمع نهاية 2022، تزايدت استجابة مصر وتركيا لضبط الصراع والانتقال نحو توطيد الانفتاح على الحل السلمي بالتنسيق مع الأطراف الإقليمية الأخرى وتجاوز التعقيدات الدولية بشأن الأزمة الليبية، وذلك بالإضافة لخفض التأثير الأجنبي، كمقدمة لتحييد أثر التوتر الإقليمي على العملية السياسية في ليبيا، سواء في الساحل الأفريقي أو محاولات التغلغل الإسرائيلي، بحيث يكون تجميع الموارد الليبية وترميم الانقسامات. بحيث تتوقف الاتفاقات الخارجية حتى الانتهاء من عقد الانتخابات.
وبشكل عام، تواجه السياسات المصرية والتركية قيوداً داخلية وخارجية، سوف تُمثل تحدياً مستقبلياً للاستقرار السياسي. فقد ساهم التغاضي عن مشروعية السلطة لكل من حكومتي ليبيا في تراكم إدراك بانحسار الفائدة من مناصرة أي من الحكومتين في مقابل استمرار التهديد الأمني واحتمال انهيار الالتزام السياسي، ومن ثم، تعمل الظروف الحالية على وضع البلدين على مسار دعم الحل السياسي، فكلٍ منهما يعمل على تثبيط مصادر التوتر الإقليمي وتوسيع علاقات الاستثمار والتجارة، والأمن الإقليمي، وهنا، تقوم مقاربات تركيا ومصر على مساندة العودة للشعب، باعتباره ضمانة للحكم القوي والمسؤولية السياسية، حيث يمثل تمكين الحكومة المنتخبة الخطوة الأولى لبناء الحد اللازم من السلطة لضمان الاتفاقيات وأمن الحدود.
تسعى كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا إلى دمج ليبيا في مشروعات أمنية فوق قدرات الدولة، لتبدو متنازعة بين ثلاثة مشروعات
وفي هذا السياق، تواجه مصر وتركيا تحديات تداعيات الانقسام السياسي، فبجانب إضعاف الحكومات وانبعاث الصراع الاجتماعي لكثافة الانقسامات في غرب وشرق البلاد، ساهم في تزايد التنافسية الأجنبية على حساب دول الإقليم، وخصوصاً مع اندلاع حروب في شرق المتوسط والبحر الأحمر، من شأنها تهديد المجال الحيوي، بسبب انتشار العنف والسلاح لدى المنظمات المُسلحة في سورية والعراق، وسهولة محاكاة الجماعات المُسلحة الليبية لأنشطة تمثل تهديداً لأمن الحدود والاستقرار الحكومي. وفي مؤشر على عوامل اهتزاز محاولات التمهيد للحل السياسي، تكشف زيارة قائد قوات الدعم السريع في السودان، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لحكومة الوحدة الوطنية عن تبنّي السياسة الخارجية لليبيا لسياق غير متجانس مع متطلبات الأمن والمصلحة في السياسة المصرية والتركية، بحيث يضع ليبيا في تماس مباشر مع أزمات إقليم الساحل والصحراء والسودان.
وعلى المستوى الدولي، يواجه البلدان تراكم القيود المرتبطة بالنفوذ الخارجي، والذي تشكّل خلال سنوات الحوار السياسي على حساب الدور الإقليمي، فمع انتهاء محاولات الجوار الليبي وانخفاض التنسيق بين الجزائر، مصر وتركيا، تمكنت المجموعات الدولية الأخرى من تطوير نفوذها، لينصب التنافس الأميركي والروسي على تشكيل العسكرية الليبية والهيمنة على المسار السياسي، ومسارعة جهات ليبية للتواصل مع إسرائيل كرافعة لتثبيت سلطتها، بشكل يزيد من ثغرات الأمن الإقليمي، وخصوصاً مع تطوّرات الحرب في غزّة والبحر الأحمر.
باعتبار الجوار الجغرافي لمصر وترابط تركيا مع النخبة الليبية، تتكون فرصة التأثير النسبي في ضبط الصراع وترويج مبادرات الحل السياسي
وزادت هذه التحدّيات مع اتساع المشروعات العسكرية والأمنية للغرب وروسيا، فهي تعمل على تكوين تركيبات عسكرية تعمل على تفكك الدولة ومُهددة للاستقرار الإقليمي. وتسعى كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا إلى دمج ليبيا في مشروعات أمنية فوق قدرات الدولة، لتبدو متنازعة بين ثلاثة مشروعات، يأتي الأول في ربط ليبيا بالقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) ووضعها ضمن الاستراتيجية الأميركية في مكافحة الإرهاب، أما الثانية، فهي تتعلّق بتصور الاتحاد الأوروبي عن موقع ليبيا في أمن البحر المتوسط، وهو تصوّر لا يقتصر على الشؤون العسكرية، بل يشمل السكان والهجرة وتآلف النظم السياسية. وفي هذا الاتجاه يتشكل الإطار الثالث في الترتيبات الروسية العسكرية، بحيث تعمل على الاستفادة من رخاوة الدولة بتوسيع القواعد العسكرية وربط الجيش الليبي بشبكة قوات فاغنر في منطقة الساحل، ليتشكل محور سياسي وأمني بين شرق ليبيا والنيجر.
وعلى الرغم من هذه التحدّيات، أدى تعدد مصادر التأثير الدولي لتلاشي القدرة على الانفراد بتسيير العملية السياسية أو العسكرية، وصار التعامل مع ليبيا كسلطات مُقَسَّمة هدفاً مشتركاً لأغلبية الأطراف الدولية، بحيث يكون التركيز على استنزاف الموارد على بناء الدولة، هنا، ويمكن النظر إلى المحاولات الفرنسية لطرح مبادرات كتطوير للاحتواء الغربي للسياسة في جنوب المتوسط.
ورغم هذه القيود، يساعد تداخل النخبة السياسية وتشابك المصالح على مستوى الدول الثلاث على الخروج من حقبة تحميل مصر وتركيا مسؤولية الاستقطاب الدولي والإيحاء بأن مشكلة ليبيا هي نتيجة بتنافس البلدين وتجاهل الدور السلبي لأطرافٍ أخرى، ما يمهّد للتوافق على ملامح الانتقال السلمي وتأخير الرغبة في الحرب. وباعتبار الجوار الجغرافي لمصر وترابط تركيا مع النخبة الليبية، تتكون فرصة التأثير النسبي في ضبط الصراع وترويج مبادرات الحل السياسي. وبجانب تقديم مساهمات لتحييد آثار الأزمات الإقليمية تجاه الوضع في ليبيا، يتوقف تقدّم التناسق المصري ـ التركي على تقدير حالة التوازن ما بين التطلّعات الأجنبية وتساند الشبكات الإقليمية، بجانب دعم التفاوض على تشكيل حكومة موحدة، وهنا، تمثل العناية باقتراح شروط نجاح مرحلة مؤقتة جديدة محور التناول في المرحلة المقبلة، وقد يساعد تطوير دور المجلس الرئاسي الليبي في دعم العملية السياسية وخفض تأثر الليبيين بالمُتغيرات الخارجية.