ليبيا... غادر المشري والخلافات باقية
بعد خمس سنواتٍ متتاليةٍ قضاها خالد المشري في رئاسة مجلس الدولة في ليبيا، يغادر اليوم بعد أن خسر الانتخابات أمام منافسه، محمد تكالة الذي حصل على 67 صوتا، في حين حصل المشري على 62 صوتا من بين أصوات 129 عضوا حضروا التصويت، في انتخابات تجري حسب اللائحة الداخلية للمجلس مرة كل عام، يتم فيها انتخاب مكتب رئاسة موزّعا بين أقاليم البلاد، حيث يكون الرئيس والمقرّر من المنطقة الغربية، ونائب الرئيس الأول من المنطقة الشرقية، ونصيب المنطقة الجنوبية النائب الثاني للرئيس.
تأسس مجلس الدولة استنادا الى الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات في العام 2015، ليحل محلّ المؤتمر الوطني العام، ترضية لأعضائه الذين رفضوا الاعتراف بمجلس النواب وانتخاباته، مستندين في ذلك إلى حكم المحكمة الدستورية التي قضت ببطلان تلك الانتخابات. ولتمرير الاتفاق، توصل أعضاء الحوار السياسي بإشراف االممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في تلك الفترة، برناردينو ليون، إلى أن يتخذ المجلس العاصمة طرابلس مقرّا له. ترأس المجلس في دورتين متتاليتين عبد الرحمن السويحلي، ثم تلاه خالد المشري الذي ظلّ يديره خمس سنوات متتالية. ومع تأسيسه، أصبح هذا المجلس أحد الأجسام الرئيسية التي ساهمت في حدوث شرخ وانقسام لا تزال البلاد تعاني تبعاته، حيث أدّت خلافاته مع باقي الأجسام إلى أزمات متكرّرة، وشارك مع غيره في جعل البلاد تتخبّط في سياستها، وهي أبعد ما تكون عن الاستقرار، تتقاذفها أمواج صراعات داخلية وخارجية، كان دائما طرفا فيها، حيث شكّل مع مجلس النواب ثنائيا أجادا كل شي عدا الاتفاق. وبذلا كل ما أوتيا من دهاء وذكاء، من أجل الاستمرار والبقاء في المناصب، وقد ساعدهما في هذا الاختلاف الغموض وعدم الوضوح في واجباته ومسؤولياته، غموض لم يبدّده اتفاق أعضاء الحوار السياسي على أن مهامه استشارية فقط، بل على العكس، فتح هذا المصطلح الفضفاض الباب لتدخله في كل أجهزة الدولة، التنفيذية والرقابية، بل والقضائية أيضا، كما وضعت له مهام أخرى يبدو أنها صيغت لتكون عصيّة على التنفيذ، وهي المشاركة مع مجلس النواب في اقتراح مشروعي قانوني الاستفتاء والانتخابات العامة، والمشاركة معه أيضا في صياغة أي تعديلٍ دستوري، فاذا كان المجلس عاجزا عن صياغة أيّ رؤى مشتركة بين أعضائه حيال كل المواضيع العامة التي طرحت عليه، فكيف سيكون قادرا على اتفاقٍ مع مجلس النواب الذي يسيّره رئيسه، عقيلة صالح، على هواه، والذي يعاني، هو الآخر، من انقسام داخلي، ومن سيطرة بعض النواب على معظم قرارته.
اتهم عبد الحميد الدبيبة خالد المشري بأنه أحد الأطراف المعرقلة لأي اتفاق للوصول إلى الانتخابات
تدخّلت دول إقليمية ودولية لإيجاد توافقٍ بين جسمين متناقضين، لا يجمعها سوى الرغبة في الخلاف والاختلاف والبحث عن ذرائع لذلك، وبذلت بعض الشخصيات السياسية، إما لمساعدة الليبيين أو لحاجةٍ في نفس يعقوب، جهودا حثيثة ومساعي عديدة، وشهدت عواصم كثيرة لقاءات جمعت بين خالد المشري وعقيلة صالح، ولكن المدن المطلّة على الأطلسي لم تفلح في إذابة الثلج بينهما، وفشلت، كما فشلت تلك المطلّة على البحرين الأبيض والأحمر، في إيجاد قواسم مشتركة أو الوصول إلى كلمة سواء، حيث ينتهي كل لقاء بينهما بالتقاط للصور وابتسامات وبيانات وتصريحات بقرب الاتفاق النهائي، وبمجرّد وصول كلّ منهما إلى مقرّه في طرابلس أو بنغازي يتبادل الطرفان الاتهامات بالتسويف والمماطلة. وقد ظلّ الطرفان على هذا الحال سنوات ليضيعا فرصا حقيقية للمصالحة، ويقفا حجرة عثرة أمام الوصول إلى قوانين الانتخابات التي ينتظرها الليبيون على عكسهما، وهما يدركان أن إجراءها يعني إزاحتهما من المشهد وانتهاء المزايا والرواتب التي يتحصلون عليها.
سنوات من الانقسام والاختلاف، استطاع مبعوث الأمم المتحدة، عبدالله باتيلي، وبدون قصد، أن ينهيها، بعد أن صرّح، في إحدى إحاطاته أمام مجلس الأمن، بأنه ينوي تشكيل لجنة سياسية، وسيتجاوز المجلسين لعجزهما عن الاتفاق، في تصريح جعلهما يخشيان سحب البساط منهما، وقد يفقدهما الكرسيين اللذين ظلا ملتصقين بهما سنوات، فسارعا إلى الاتفاق، وشكّلا لجنة اجتمعت بأسرع مما توقعه كثيرون، واتفقا على نقاط كثيرة كانت محلّ خلاف. وأدّت بوادر الاتفاق بين مجلسي الدولة والنواب إلى فتح جبهة أخرى من التوتر، فلا يمكن لهذه الأجسام السماح بالوصول إلى اتفاق تام بينها جميعا، فانتقل الخلاف إلى خلاف علني بين خالد المشري ورئيس الحكومة في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، ليسيطر على المشهد السياسي الليبي ليصبح أكثر تعقيدا، حيث اتهم المشري الدبيبة بمحاصرة مقر المجلس بآليات مسلحة ومنع أعضائه من التصويت على التعديل الدستوري الذي جرى الاتفاق عليه مع مجلس النواب، في محاولة لعرقلة أي توافق يمكن أن يفضى إلى انتخابات. وأضاف "يجهل الدبيبة من هو المجلس الأعلى، وهو يشعل ماكينة إعلامية تنفق مئات الملايين من ميزانية الليبيين، برئاسة وليد اللافي، وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية، لتشويه المجلس". واتهم الدبيبة المشري بأنه أحد الأطراف المعرقلة لأي اتفاق للوصول إلى الانتخابات، مضيفا أنه يريد القفز إلى السلطة التنفيذية من خلال صفقة مع مجلس النواب، تحت مزاعم توحيد هذه السلطة.
يظل المواطن الليبي رهينة لأهواء ساسته، ينتظر انفراجاً هو على يقين بأنه لن يأتي بسهولة
استمرّت المناكفات والتصريحات الإعلامية بين الطرفين، وكلاهما يتّهم الآخر بعرقلة الانتخابات، وفي الواقع كلاهما كذلك، ووصل الأمر إلى التهديد باستخدام السلاح على خلفية منع أعضاء من مجلس الدولة من السفر إلى تركيا، وسحب جوازات سفرهم عند مغادرتهم مطار معيتيقة، وبأمر من الدبيبة نفسه، الأمر الذي جعل المشري يخرُج في تصريح مرئي، ليقول مهدّدا "إنه سيقابل أي تصعيدٍ من الحكومة بتصعيدٍ مماثل". ووسط هذه الحرب الإعلامية بين الطرفين، وصل موعد انتخابات مجلس الدولة، ليجد المشري نفسه خارج اللعبة، وسط اتهاماتٍ بتدخّل الدبيبة وبعض مساعديه في سير هذه الانتخابات، من خلال الاتصال بأعضاء مؤثرين في المجلس، ووعود بهباتٍ ومناصب وغيرها، ليسدل الستار بذلك على حقبةٍ تولاها المشري ولم يحقق فيها إنجازا يذكرُه الليبيون بعده، وهو في هذا ليس استثناء من بقية متصدّري المشهد، الأجسام الذين لا همّ لهم سوى البقاء في السلطة، من دون الاهتمام بما تعانيه البلاد مند أكثر من عقد.
وفي المحصلة، لن تغيّر هذه المغادرة الكثير، فستعود الخلافات بين مجلسي الدولة والنواب، سيما وأن محمد تكالة أحد أبرز رافضي التسوبة مع مجلس النواب، والذين لهم موقف معارض للتعديل الدستوري، الذي كان أهم مخرجات هذه التسوية. وستشهد علاقات مجلس الدولة، برئاسته الجديدة، مع الدبيبة كثيرا من الانفراج والتحسّن، وستعود كما كانت، سمنا على عسل، نظرا إلى علاقة الرجلين القوية والمتميزة. ولكن هذه المغادرة لن تغيّر، في المحصلة، الكثير، سوى تغيير تحالفات جديدة، ستنهي خلافات مجلس الدولة وحكومة طرابلس، كون الرئيس الجديد أحد ابرز المؤيدين والداعمين للدبيبة، وأحد الرافضين التسوية مع مجلس النواب، والذين لهم موقف معارض للتعديل الدستوري الذي كان أهم مخرجات هذه التسوية. وما بين تغيّرات هامشية لا تعني الكثير وتحالفات تتغيّر وخلافات تتجدّد وعرقلة لأي تسوية، يظلّ المواطن الليبي رهينة لأهواء ساسته، ينتظر انفراجا هو على يقينٍ بأنه لن يأتي بسهولة، في وجود هذه الأجسام التي تعيش على الاختلاف وتقتات منه.