ليبيا .. خطوةٌ نحو الجماهيرية الثانية
دخل الملف الليبي منعطفا جديدا بعد ترشّح سيف الإسلام القذافي واللواء المتقاعد خليفة حفتر للانتخابات الرئاسية، المقرّر تنظيمها في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، في خطوة تحمل أكثر من دلالة، أبرزها احتمال إعادة إنتاج نظام العقيد معمر القذافي، بما ينبئ بخلط مزيد من الأوراق، في ظل عجز الفرقاء عن توسيع قاعدة التوافق على مقتضيات بناء الدولة الليبية الجديدة.
قوبل ترشّح سيف الإسلام وحفتر باحتجاجاتٍ واسعة، سيما في مدن الغرب الليبي التي تعتبر الحاضنة الشعبية والسياسية لثورة 17 فبراير التي أطاحت حكم القذافي بعد أكثر من أربعة عقود قضاها على رأس السلطة. وبقدر ما تهدّد هذه الاحتجاجات بعودة الملف الليبي إلى مربع الصفر، تعيد إلى الواجهة التحوُّل الذي طرأ على ميزان القوى بعد انتكاسة ثورات الربيع العربي، واستعادةِ الأنظمة السابقة السيطرةَ على السلطة في مصر والجزائر والسودان. ومن هنا، يصعب النظر إلى ترشّح سيف الإسلام نجل القذافي خارج كونه محاولة لتأسيس الجماهيرية الثانية، من خلال إحياء الإرث السياسي للعقيد معمر القذافي. ولا يخلو اختيارُ سيف الإسلام مدينة سبها لتقديم ترشّحه من دلالة، على اعتبار أنها أحد معاقل نظام والده، وهو ما يُعدُّ خطوة نحو إعادة صياغة معادلة الصراع السياسي في ليبيا. وفي السياق ذاته، يندرج ترشّح خليفة حفتر، فبعد أن أخفقت حملته العسكرية في السيطرة على طرابلس، يسعى للوصول إلى السلطة عبْر صناديق الاقتراع، مستفيدا مما نصّ عليه قانون الانتخابات الرئاسية بشأن السماح للعسكريين بالترشّح للرئاسة، شرط ''التوقف عن العمل قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر''. ويشكّل ترشح نجل القذافي تحدّيا كبيرا بالنسبة لحفتر، وبالأخص فيما يتعلق بإعادة تشكيل التحالفات داخل بقايا النظام السابق. صحيحٌ أن حفتر لم يقدّم نفسه يوما وريثا لنظام القذافي، لكن محاربته التشكيلات الإسلامية المسلحة جعلت مشروعه السياسي يندرج ضمن محور الثورات المضادّة التي تتوخّى استعادة السلطة وإعادة الأوضاع في المنطقة إلى ما قبل 2011. هذا إضافة إلى أن جزءا كبيرا من قاعدة قواته وقيادتها تتألف من التشكيلات الأمنية والعسكرية لنظام القذافي. وهو ما يعني أن ترشّح سيف الإسلام، بما يمثله من ''شرعية'' في نظر أنصار والده، قد يُحدِث شرخا في صفوف معسكر حفتر، وهو ما يتخوّف منه هذا الأخير في ظل الدعم الإقليمي والدولي الذي قد يحظى به نجل القذافي.
من ناحية أخرى، يطرح ترشّح الاثنين الصعوبات التي تجابه التحوّل الديموقراطي في سياقات سياسية وثقافية مختلفة، ذلك أن نجاح تجارب كثيرة في هذا الصدد ارتكز على استيعاب الأجنحة المعتدلة في الأنظمة السابقة، ضمن صفقةٍ تحفظ الحد الأدنى من مصالح هذه الأنظمة، مقابل تحقيق المصالحة الوطنية وبناء نظام ديموقراطي. وتشكّل البنية القبلية والمذهبية والطائفية عائقا بنيويا أمام إنجاز تحول ديموقراطي من دون تكاليف كبيرة. وتمثل الحالة الليبية نموذجا صارخا لذلك، بالنظر إلى تجذّر المكون القبلي في الاجتماع السياسي الليبي، ما يجعل جزءا كبيرا من معادلة الصراع محكومةً بالتحالفات القبلية. وعلى الرغم من انصرام عشر سنوات على سقوط نظام القذافي لا تزال مناطق وقبائل وعشائر تدين بالولاء له ولعائلته، ما يعني أن ترشّح نجله يعكس وزن هذا المكون في أي حلٍّ متوقعٍ للأزمة الليبية. ولذلك، ليس استمرار الاستقطاب الحاد بين غرب ليبيا وشرقها إلا تحصيل حاصل أمام عجز الفرقاء عن تجاوز سطوة القبائل ونفوذها باعتبارها الرقم الأصعب في معادلة الصراع.
يلقي ترشّحُ سيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر للانتخابات الرئاسية بظلاله القاتمة على المشهد الليبي، فعلاوة على الصعوبات القانونية والسياسية التي يطرحها ترشّحهما، لا يزيد انقسامُ القوى الإقليمية والدولية المعنية هذا المشهد إلا تعقيدا.