ليبيا بين السياسات الإقليمية والعلاقات التنافسية

31 أكتوبر 2022

وزير الدفاع التركي والدبيبة يوقعان اتفاقية بين بلديهما في إسطنبول (25/10/2022/الأناضول)

+ الخط -

لم يُثر توقيع مذكرات تفاهم بين تركيا وليبيا، 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، الخلاف حول مشروعية الحكومة الليبية بقدر ما يكشف عن خريطة العلاقات التنافسية في البحر المتوسط، فهناك اتجاه يرى هيمنة الأبعاد السياسية لأجل التموضع الاستراتيجي في ظل تغيّرات محتملة في الأوضاع الإقليمية في البحر المتوسط. وفي هذا السياق، يساعد تناول تلقي البيئة الإقليمية لتطور العلاقات التركية ـ الليبية في الاقتراب من شبكات القوى الإقليمية المحتملة، ومدى تلاقيها على الحل السياسي.

تباعد الليبيين والحكومة
يمكن النظر إلى مذكرات التفاهم على أنها تطوير للمُوقَعة في العام 2019، وانتقالها إلى مشاريع تنفيذية تتعلق بالطاقة وزيادة الفرص الاستثمارية لدى الجانبين في مجال التنقيب والنقل والتجارة. وتضمنت الاتفاقية شروطاً مرنة لتعديلها وإلغائها بإخطار خطّي، لتتفق مع خريطة المرحلة التمهيدية، وتترك الحرية للحكومات المقبلة.
وبشكل عام، بدت أسباب الاعتراض من داخل ليبيا وخارجها متماثلةً مع الموقف من مذكّرة التفاهم حول الحدود البحرية والتعاون العسكري في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. ويمكن تصنيف الاعتراضات الليبية على مذكّرات التفاهم واضحة من مكونات الجهة التشريعية في مجلس النواب وأغلبية أعضاء مجلس الدولة، فمن جهته، اعتبر رئيس النواب، عقيلة صالح، بطلان كل إجراءات الحكومة لانتهاء ولايتها منذ 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، كما اعترض 73 عضواً في مجلس الدولة من إجمالي 145 عضواً على توقيع رئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، لغموض بنودها وأهدافها، واعتبروها انتهازية من "الأشقاء الأتراك". تمثل هذه الكيانات جزءًا مهماً من مركز العملية السياسية. لم يقتصر بيان أعضاء مجلس الدولة على سرعة صدوره، وإنما لكثرة الموقعين بما يعكس تباعداً عن الحكومة.
وتحت هذه الضغوط، أعلنت حكومة الوحدة عن محتوى المذكرة وارتباطها بقطاع الطاقة من الجوانب الفنية والقانونية، وأنها أقرب ارتباطاً بالقوانين المحلية وتنشيط الاستثمار والمصالح المشتركة من دون التنازل عن أرض أو نطاق بحري، كما هي متماثلة مع المشاركات المصرية، الأوروبية والأميركية. وتذهب الحكومة إلى وجود خلافاتٍ مع اليونان على الحدود البحرية، تتعلق بحق التنقيب قبالة جزيرة كريت، سوف يجري رفعها إلى التحكيم الدولي.

توقيع المذكرات بعد استقبال تركيا كل الأطراف الليبية، يرتبط بتركيبة التدخل الدولي أكثر منه بتمكين حكومة ليبية

سياسات تركية
وبجانب كثافة العلاقات التركية الليبية، تبدو السياسة التركية مرتبطة بمنظورين، الأول مرتبط بالتوازنات في شرق البحر المتوسط، حيث تُعزّز الموقف الجيوسياسي لتركيا في البحر المتوسط والنزاع مع اليونان وقبرص الجنوبية، وخصوصاً مع زيادة أهمية شرق المتوسط بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا، وبغض النظر عن المعضلة الإسرائيلية، تظل مشكلة ترسيم الحدود البحرية لليونان مع الدول الأخرى مصدراً للتوتر، بسبب الخلاف حول تعريف المنطقة الاقتصادية لمجموعات الجزر بحدودها الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، حيث ظل ترسيم حدودها مُشكلاً دائماً مع كل من تركيا، مصر وليبيا. ويتعلق الثاني بالموقف التركي من الصراع على السلطة بين حكومتين غير متماثلتين في الاعتراف الدولي. ويمكن القول، إن توقيع المذكرات بعد استقبال تركيا لكل الأطراف الليبية، يرتبط بتركيبة التدخل الدولي أكثر منه بتمكين حكومة ليبية، فالانفتاح التركي، على مدى العام الماضي، كان من المفترض أن يسير نحو القبول بالتغيرات المحلية، غير أن تنامي الاختلاف الدولي وتراجعه عن دعم الانتخابات دفعها نحو العمل وفق الوضع القائم والمعترف به دولياً.
وتتقارب الجزائر مع المواقف التركية، من وجهة الاعتراف بالحكومة القائمة، حيث تجنّبت الدخول في الجدل حول الحكومة المشروعة، واعتبرت الموقف الدولي مرجعية قانونية حتى يتم تكوين شرعية انتخابية، ووفق هذا التوجه توسعت العلاقات مع حكومة الوحدة الوطنية، ولذلك، لم تكن معنية بمذكرات التفاهم بقدر اهتمامها بسلامة الوضع القانوني للحكومة. قد يشكل ترابط مجلس النواب وخليفة حفتر سبباً إضافياً لرفض الاعتراف بقراراتهم، وذلك، باعتبارها تتعارض مع الأمن الوطني للجزائر في ليبيا وإقليم الساحل. وبينما كانت توجهات مجلس النواب نحو تشكيل حكومة أخرى، زادت الجزائر من كثافة تواصلها مع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، حيث استقبلت رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، أكثر من مرة، وفي 11 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، استقبلت رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، رئيس دولة كامل الصلاحيات.

مصر والانزعاج اليوناني
بدت اليونان الأكثر انزعاجاً في دول حوض المتوسط، فقد استنفرت نشاطاً ديبلوماسياً مع مصر لحثها على التضامن القوي تجاه التصرفات التركية، وفي هذا السياق، تواصلت مع مصر ثلاث مرات، عبر وزير خارجيتها، نيكوس ديندياس، وكانت مع السفير المصري في أثينا، ثم اتصال هاتفي مع وزير الخارجية، سامح شكري، وأخيراً عقد لقاء صحافي في القاهرة 9 أكتوبر. وفي هذه الاتصالات، تلاقت مصر واليونان على وصف حكومة الوحدة بمنتهية الولاية على خلفية انتهاء أجلها القانوني في 22 يونيو/ حزيران الماضي، وعدم تخويلها صلاحيات بالدخول في اتفاقيات لها أعباء مستقبلية، وأن على الأمم المتحدة اتخاذ موقفٍ واضحٍ من شرعية حكومة الوحدة. وفيما يتعلق بالموقف من المذكّرات، تَمَسّك البلدان باتفاقية تعيين الحدود البحرية.
ويمكن تفسير الإلحاح اليوناني من وجهة تضرّرها من السياسة التركية بسبب النزاع على الحدود البحرية، فيما ينصبّ اهتمام مصر على ضمان مصالحها في ليبيا، فينصبّ القسم الأكبر من احتجاج مصر على تصرفات حكومة تعتبرها غير شرعية، رغم وجود علاقات ديبلوماسية، فمن وجهة الصلاحيات القانونية، ارتكز الموقف المصري على تفسيرٍ لخريطة الطريق، اعتبر أنه، حسب المادة الثالثة، لا تملك صلاحية توقيع اتفاقيات أو مذكّرات يمتد أثرها إلى الحكومات المقبلة.

تنظر أوروبا بشكل احتكاري لتأمين السواحل الليبية من خلال عملية إيريني، وتستبعد أحقية طرف آخر في القيام بمهام مماثلة

غير أنه رغم سحب الثقة من حكومة الوحدة في 21 أغسطس/ آب 2021، وقعت مصر وليبيا (اللجنة العليا المشتركة) 14 مذكّرة تعاون في مجالات اقتصادية مختلفة، في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، بالإضافة إلى ستة عقود لتنفيذ مشاريع في ليبيا، وتضمّنت المذكّرات إنشاء لجنة تجارية مشتركة، بالإضافة إلى التعاون في مجالات الصناعة والزراعة ومكافحة التلوث البحري، والإسكان، والنقل البرّي والبحري. وكانت الحجّة الثانية متمثلة في اعتبارها حكومة منتهية الولاية من تاريخ 22 يونيو/ حزيران الماضي، رغم تثبيت مجلس الأمن الحكومة مرتين، كانت الأولى في رفض قرار مجلس النواب بسحب الثقة منها في أغسطس/ آب 2021، فيما كانت الثانية في القرار 2627 (يوليو/ تموز 2022) والقاضي باستمرارها حتى انتخاب حكومة جديدة، وهذا ما يثير الجدل بشأن تَجَنب مصر قرار مجلس الأمن، وخصوصاً ما يتعلق ببقاء رئيس الوزراء لانتخابه من "ملتقى الحوار السياسي" ضمن قائمة مغلقةٍ لا تخضع لقرارات مجلس النواب.
قد يساعد اختلاف السياقات في إدراك الفروق في التوجّه السياسي، وهنا يمكن الإشارة إلى نقطتين: الأولى، حيث تشكل الموقف الرسمي من حكومة الوحدة في 6 سبتمبر/ أيلول الماضي عندما انسحب وفد وزارة الخارجية من اجتماع جامعة الدول العربية بسبب رئاسة ليبيا الدورة الحالية، من هذه الوجهة، قد لا ينسحب رفض المذكرة على العلاقة مع تركيا بقدر ما هو رفض لبقاء حكومة طرابلس، أما الثاني، حيث الاتفاقية فهي تعيين جزئي للحدود البحرية مع اليونان ومفتوحة للتعديل انتظاراً للاتفاق بين تركيا واليونان. 

السياسات الأوروبية
وفي إطار تقليدي، والحديث عن ضرورة الانتخابات، بدت التعبيرات الأولية للاتحاد الأوروبي، فقد تحدث الناطق الرسمي، بيتر ستانو، عن اتفاقية محتملة من دون معرفة تفاصيل عنها، غير أن التطور المهم جاء من ناحية بريطانيا التي تتجه بريطانيا للظهور العلني طرفاً مباشراً في إدارة الأزمة الليبية، فبعد غياب دام ثماني سنوات، زارت قطعة بحرية تابعة للقوات البريطانية ميناء طرابلس في 28 سبتمبر الماضي، وبغض النظر عن التوافق الأوروبي على الاعتراف بحكومة الوحدة، بدت العلاقات العسكرية مؤشّراً على تصعيد التنافس السياسي على ليبيا. ولتطوير سياستها، دعت لعقد مؤتمر دولي في لندن في 26 – 28 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ليكون بديلاً عن مؤتمر برلين الثالث.
ويمكن النظر إلى الموقف الأوروبي من العلاقات التركية الليبية من إطار أوسع، يشمل البحر المتوسط والنطاق الأوروبي. ومن وجهة السياقات الأمنية، تنظر أوروبا بشكل احتكاري لتأمين السواحل الليبية من خلال عملية إيريني، وتستبعد أحقية طرف آخر في القيام بمهام مماثلة. ومن وجهة أخرى، لا يمكن استبعاد سياقات شرق المتوسط من المعادلة الاقتصادية والأمنية بين مجموعة البلدان المُشاطئة ومتداخلة الحدود البحرية. ومن المحتمل أن يحفِّز ترسيم الحدود الإسرائيلية مع كل من لبنان وفلسطين، برعاية أميركية وفرنسية تسارع النزاع حول المناطق القلقة.

قد يتطلّب التوصل إلى صيغة لحل الصراع في ليبيا توازن تأثير الفاعلين الدوليين وتدافعهم نحو الحل السياسي

ولهذا، يمكن فهم رد تركيا على تصريحات اليونان والاتحاد الأوروبي، 5 أكتوبر، واعتبرتها اغتصاباً لحقوق السيادة، محاولة لتضييق نطاق الاختلاف الإقليمي. ومن خلال التتابع الزمني، يمكن استكشاف وجود علاقة ما بين تطورات منتدى غاز شرق المتوسط، في يناير/ كانون الثاني 2019 والحراك التركي الليبي في نفس العام. وتتسق هذه التراتبية مع سعي اليونان إلى تسليح الجزر المحايدة وتطوير مذكرات التفاهم بين ليبيا وتركيا في 2022، حيث ظهرت التداعيات الثنائية محور الجدل في البحر المتوسط والنظر إليها مباراةً لكسب الحلفاء، وليست مشكلة في العلاقات العربية التركية.
وفي هذا السياق، يبدو مركز الخلاف الأوروبي ـ التركي مرتبطاً بالحفاظ على استحواذ شركات، توتال (الفرنسية)، إيني شمال أفريقيا (الإيطالية)، ريبسول (الإسبانية) وإميرادا هس (الأميركية) على قاع الطاقة ومنع دخول منافسين جدد، وهنا، ينصبّ الاهتمام الغربي على تقليل فرص حدوث تغير في هيكل التنافسية في البحر المتوسط أو الفضاء الأزرق، وفقاً للثقافة التاريخية التركية، القائمة على تنوع المصالح وحق كل البلدان في الاستثمار الآمن.
وبينما رفضت اليونان ومصر الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية، فقد استمرت بقية الدول في التعامل معها حكومة قانونية تحدثا في انتهاء حكومة الوحدة الوطنية، بينما سكتت الدول الأخرى، ونظرت للأبعاد السياسية لكثافة التعاون التركي ـ الليبي، وسارت في تشبيك علاقاتها مع كل المكونات السياسية في ليبيا، وهنا، يمكن الإشارة لمحادثات المسؤولين الأوربيين وانتشار لقاءات المبعوث الأميركي مع كل الليبيين والدول الإقليمية. 
ما يمكن ملاحظته أن عوامل التوتر فيما بين دول جنوب المتوسط أقل بكثير من القلق الأوروبي على تغيير هيكل العلاقات في البحر المتوسط. وباعتبار أن التعامل مع الأزمة الليبية يكشف عن مستويات الخلاف السياسي والحاجات الأمنية، وتتّضح فجوة المصالح، وبالتالي، قد يتطلّب التوصل إلى صيغة لحل الصراع في ليبيا توازن تأثير الفاعلين الدوليين وتدافعهم نحو الحل السياسي. يتوقف الوصول إلى هذه المرحلة على تكوين كتلة تتضافر لدعم الحل السياسي.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .