لو نعفي القيم الغربية من الهجاء
القيم الغربية، بما هي عدالة وليبرالية وعلمانية ومساواة بين البشر وسيادة للقانون وديمقراطية وتحرّر وحداثة وتنوير وإعلاء لقيمة الفرد على حساب الجماعة، بريئة مما تُتهم به بمناسبة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزّة. من يتنكّر لتلك القيم في الغرب هم سياسيون غربيون وإعلاميون وعاملون في مجال الثقافة، وهم من يمارسون في ما يتعلق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي ازدواجية معايير على حساب من هو "آخر"، أي فلسطيني عربي في هذا السياق. أما القيم، فإنها لا تخسر من مصداقيّتها شيئاً عند امتحان التطبيق والممارسة على يد مسؤولين سياسيين وإعلاميين وثقافيين، قد يكونون تنويريين نزيهين أخلاقيين وذوي حساسية خاصة إلى جانب الحق وأصحابه، وقد يكونون أولاف شولتز وريشي سوناك وجو بايدن وزملائهم في نادي "الاستثناء الإسرائيلي" وأهازيج "يحق لإسرائيل ما لا يحق لغيرها"، ولا يمكن مساواة اليهودي بالمسلم وخرافة أن تاريخ فلسطين وإسرائيل بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لا قبل ذلك بـ75 عاماً من القتل والظلم والاستيطان والاحتلال والسرقة والفصل العنصري في نظام استعماري إحلالي. ما يخضع لامتحان التطبيق هم بشر منتخبون يجدر التشهير بهم ومقاضاتهم ومحاسبتهم سياسياً وقانونياً وإعلامياً بتهم الطعن في القيم التي انتُخبوا باسمها، بدل استلال السيوف لذبح الثقافة الغربية وقيمها وممارسة الهواية المفضلة في عصرنا، أي تأجيج صراع الحضارات وصدام الأديان والهويات البدائية. أما القبول باعتبار أن نذالة مسؤولين غربيين تتحمل مسؤوليتها قيم الغرب، فإنما ذلك يشبه القول إن ما يرتكبه مجرمون من أبناء "داعش" و"القاعدة" يمثل الإسلام وقيمه، لا هذا صحيح ولا ذاك.
القيم بذاتها لا ذنب لها في كل هذا الانحياز العنصري لإسرائيل وناسها وراويتها وجرائمها. أسباب ذلك الانحياز العنصري كثيرة، يقع في متنها جهل مطبق يظن مصابون به في أوروبا وأميركا أن "ربّ ضارّة نافعة"، أي أن أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول وحرب الإبادة الإسرائيلية التي تلتها، ربما تفتح باباً لإنهاء القضية الأكثر تعقيداً في العالم، أي القضية الفلسطينية. غباء هو من النوع الإجرامي يفترض أنه بإبادة عشرات الآلاف من الفلسطينيين يقترب موعد تصفية القضية الفلسطينية كيفما اتفق، ويقتنع المعنيون الضحايا بأن هذا نصيبهم من العالم الظالم وهذه قسمتهم من هذه الدنيا الفانية، بينما لا يفعل التاريخ إلا تكذيب هذه المعتقدات الخبيثة والغبية في آن معاً، كحال الشيطان الحمار.
الشواهد كثيرة على براءة القيم الغربية من سلوك غربي عنصري في دعمه الجريمة الإسرائيلية أو الصمت عنها. ماذا عن مواقف أخلاقية لمسؤولي بلدان غربية كأيرلندا وإسبانيا والنرويج واسكتلندا من إبادة غزة، وهي بلدان ينطلق مسؤولوها من صفتهم الغربية الإنسانية ليقولوا ما يقولون ويتصرفوا مثلما يتصرفون إنصافاً للفلسطينيين وتنديداً بإسرائيل وضغطاً عليها. المثقفون والصحافيون والمواطنون والفنانون والسياسيون المعارضون الذين يملأون الغرب بضجيجهم ويواجهون التهديدات المكارثية في أوروبا وأميركا الشمالية اليوم رفضاً للإبادة الإسرائيلية ولتابو التنديد بالصهيونية وللترهيب الفكري بسلاح معاداة السامية وللتواطؤ الحكومي لبلدان غربية كثيرة مع الوحشية الإسرائيلية، هؤلاء غربيون أيضاً وقيمهم هي التي تحرّكهم.
أما المعادون لكل ما هو غربي، كحال كثيرين من عربنا حكّاماً ومواطنين، فإننا نرى بوضوح إنجازاتهم، تواطؤاً حكومياً مع الجريمة الإسرائيلية أو بلادة شعبية تحت ضغط القمع وبُغض الشأن العام وسعياً لتمرير يوميات الفقر على "السوشال ميديا" من دون متاعب التفكير والنقد. غير الغربيين بالمرة نراهم في الهند كذلك، أحد أكثر البلدان حماسة للتوحّش الإسرائيلي المطلق. في الصين وروسيا حيث لم يتظاهر شخصان اثنان تضامناً مع الفلسطينيين. في بلاد المليارَي مسلم حيث يتظاهرون قليلاً، يصرخون أكثر، ثم يتفرغون لشتم الغربيين وحرق أعلام بلدانهم. غربيون قرّر أحدهم، وهو جندي أميركي كان يُدعى آرون بوشنل، حَرْق نفسه حتى الموت وعلى فمه تسع كلمات فحسب: "الحرية لفلسطين، لن أكون متواطئاً مع الإبادة بعد اليوم".