لنَدَعِ الحبّ يقول كلمته

20 ابريل 2024

(مهند عرابي)

+ الخط -

حَظِيَ مقالي "أمهات متطفّلات" ("العربي الجديد"، 13 /4/ 2024)، عن علاقتي بابنتي الثلاثينية، بعد مشاهدة فيلم من الموضوع نفسه، حين نشرته على صفحتي على "فيسبوك"، بعدة آراء مختلفة ومتناقضة من قرائه (ينتمي معظمهم إلى شريحة المثقّفين والمبدعين)، وانقسمتْ بين من يرى أنّ العلاقة الصحيحة بين الأولاد والأهل يجب أن تتمتّع بقدرٍ من الخصوصيةٍ والاستقلاليةٍ، خصوصاً حين يتجاوز الأبناء الثلاثين من أعمارهم، ويصبحون مُستقلّين وقادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم وتحديد خياراتهم المنفصلة، وقادرين وقابلين تحمّل نتائج خياراتهم بأنفسهم، وبين من يعتقد أنّ هذه الاستقلالية الكاملة تتضمّن في داخلها شيئاً من نسف الكيان الأُسَري والتعاضد العائلي، وأنّ من حقّ الأهل الذين أنجبوا وربّوا وتعبوا أن يحظوا ببعض الاهتمام من أولادهم، وأن يأملوا بمقابلٍ يَكمُن في رعايتهم في شيخوختهم والاهتمام بهم من أبنائهم، وعدم تركهم مصائر مُحزِنَة حين يصبحون في سنّ لا يعودون فيه قادرين على العطاء أو على الاعتماد على أنفسهم بالكامل، مادياً أو معنوياً.

وسأعترف، أولاً، أنّ أكثر ما أخشاه في حياتي هو الوصول إلى سنّ أُصْبِحُ معها محتاجةً للمساعدة في العيش؛ المساعدة المادية أو المعنوية. رُعْبي الإنساني الحقيقي ليس من الموت، بل من العجز، سواء بسبب التقدّم في السنّ أو بسبب المَرَض، وفكرة أنني قد أحتاج ابنتي لتُعيلَني أو لتَسْنُدَني في شيخوختي ومَرَضي هي إحدى الأفكار المُؤرّقة لي دائماً، ليس لأن ابنتي لن تفعل هذا، بل لأنني لا أحبّ نفسي وأنا أشعر بثقل احتياجي لأيّ كائن بشري، حتى لو كان أقربَ الناسِ إلي. أفكّر أحياناً بأنني لو وصلت إلى هذه المرحلة فسوف يكون التخلّصُ من الحياةِ أحدَ الخيارات المُتاحة، لا أعرف طبعاً إن كنتُ أتجرّأ على فِعْلِها، وطبعاً لا أعرف كيف ستكون حياتي أو أين سأكون، ذلك أنّ مَنْ في وضعي لا يمكنه التخطيط لشيء بعدما نُسِفَتْ كلّ الاحتمالات التي كُنْتُ قد وضعتها لحياتي في سورية قبل 2011.

والحالُ أنّ في آراء الأصدقاء المتناقضة كلّها، بشأن مقال الأسبوع الماضي، جانباً من الصواب، فبسبب الهجرة واللجوء وتوسّع المعرفة وانكشاف الثقافات الأخرى بدأنا نرى كيف ينفصل الولد عن أبويه بمجرّد أن يبلغ سنّ الرشد، في كثير من المجتمعات المتقدّمة، ويُصبِحَ مسؤولاً عن حياته بالكامل، ومن حقّ أبويه رفض مساعدته، لا شيء يلزمهما بذلك غير الحبّ. في المقابل، تتيح الحكومات لمواطنيها الذين يصلون إلى مراحل متقدّمة في السن دُورَاً للمساعدة، مُجهّزةً بكلّ وسائل الرفاهية والأمان، ولا يجد الأبناء هناك غضاضةً في أن يعيش أحد والديهم في تلك الدُور، ولا الآباء يعتبرون ذلك عقوقاً من الأبناء، ولا يوجد حُكم أخلاقي مُجتمعي يُدين من يفعل ذلك كما في مجتمعاتنا التي تكون فيها علاقاتنا الأسريةُ محكومةً بسلطة الواجب الأخلاقي والمُجتمعي، الذي تنتج عنه علاقات مشوّهة أحياناً، فيها نوع من التعلّق المَرَضِي بين الأهل والأبناء، يعيق الأبناء عن بناء شخصياتٍ مستقلةٍ خارجةٍ عن سلطة العائلة أو القبيلة أو العشيرة أو المجتمع.

لكن، من يمكنه إلغاء دور الناموس أو الحبّ في العلاقة بين الأهل والأبناء أو العكس؟ تقوم الحياة على أساس التشاركية والتعاضد، الناموس الإنساني، لمن يتمتّعون به، يفرض على أصحابه تقديم المساعدة لمن يحتاجون إليها، هذا الناموس الذي يسميه البعض "كارما" سوف يعيد لصاحبه ما قدّمه ذات يوم، حتى لو بكلمة محبّة تأتي في وقتها، الحبّ أيضاً ينتج عنه عطاءٌ متبادلٌ، أَحْكي هنا عن الحبّ المُعافى لا الأناني ولا المَرَضِي. نحن حين نحبّ نُعطي من دون حساب، وحين يُحبّنا الآخرون يعطونا أيضاً من دون حساب، وهل من حبّ يتفوق على حبّ الوالدين لأبنائهم أو حبّ الأبناء والديهم؟ حتى لو شاب العلاقة هذه كثير من الشوائب الناتجة عن موروث مُجتمعي وأُسَري متأصّل ويَحتاج إلى مساعدةٍ نفسيةٍ كي يُشفى الحبّ من كلّ ما يعوق تبلوره الصحيح. هذا الحبّ هو ما يدفعنا للاهتمام بأولادنا، حتى لو كانوا مستقلين تماماً، وهو ما يجعلنا نثق أنّ أبناءنا لن يتخلوا عنا حين نحتاجهم. لنَدَعِ الحبّ يقول كلمتَه في العلاقة مع أبنائنا، ولنلقِ بفكرة الواجب جانباً، فالواجب قد يجعلنا نبدو مترابطين، لكننا في السرّ سوف نتذمّر ونتمنى لو أننا بلا أهل أو بلا أبناء.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.