لم تبقَ خطوط حمراء
قبض الرجل العجوز راتب التقاعد وركب الحافلة (الباص) المزدحمة ليصل إلى بيته، وكان فيها لص سرق له نقوده، وعندما طلب معاون السائق (الكونترول) الأجرة لم يجد الرجل المسن في جيبه شيئاً، فاحمرّ وجهه خجلاً وانعقد لسانه، فقال له المعاون مستهزئاً: عيب عليك... عامل حالك محترم وما في بجييك قرش... استمع الحرامي إلى الحوار، فتحرّكت "النخوة" فيه، وقال للمعاون: أخي أجرة الختيار عليّ... فقال الرجل المسنّ للحرامي: الله يبارك فيك ويكثر من أمثالك! وأخذ الركاب يمدحون الحرامي ويثنون عليه ويدعون الله أن يزيد في أعداد أمثاله، ومنذُ ذلك الحين وأعدادهم بازدياد يسرقون طعام الفقير ويعطونه الفتات... ويتلقون الشكر والتقدير.
تُروى هذه الواقعة مُلحةً، لكنّها سوداء، فهي تختصر المشهد ليس في العالم العربي فحسب، بل في كلّ بلدٍ تغيب عنه العدالة وتستفحل فيه اللصوصية في النخب الحاكمة ومن ينتفع منها من بطانةٍ وأدوات، فالطاغية، مهما كان، هو فرد، لا يملك في الحقيقة قوةً ولا سلطاناً، وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تحني له ظهرها فيركب، وتمدّ له أعناقها فيجرّ، وتحني له رؤوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزّة والكرامة فيطغى، على حد تعبير الأديب الراحل سيد قطب. وليس بعيداً عن هذا المعنى، بل بعباراتٍ مختزلة وضعها غسان كنفاني في "كبسولة" مكثفة، إذ كتب: يسرقون رغيفك... ثم يعطونك منه كِسرة... ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم... يا لوقاحتهم!
النظام العربي الرسمي ما أطعمنا من جوع ولا آمنّا من خوف
الكلام هنا على المستوى "الاقتصادي"، فما بال المستويات الأخرى، خصوصاً أنّ النظام العربي الرسمي ما أطعمنا من جوع ولا آمنّا من خوف؟ في وسع أي باحث عن الحقيقة أن يقلب نظره في حال العرب، ليجد أن بلادهم منهوبة مسلوبة، رغم ما تتوفر عليه من ثروات. من يصدّق مثلاً أنّ في ليبيا التي تضم أكبر مخزون نفطي في أفريقيا فقراء وجوعى؟ بل ما بال العراق، بلد الخير العميم نفطاً ونخلاً وأرضاً خصبة وحضارة عريقة ضاربة في عمق التاريخ (بلاد ما بين النهرين!) يوجد بها جوع، بل "ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع" كما قال الشاعر بدر شاكر السياب؟
وقل مثل هذا، أو قريباً منه، عن باقي البلاد، حتى النفطية المصنّفة غنية في بلاد الخليج، فما بالك بالأردن ولبنان، والشمال الأفريقي ومصر وغيرها من بلاد لا تتوفر على النفط الذي يدير عجلات اقتصادات العالم كله، فيما يطحن الجوع بعجلات الظلم والسلب والنهب فقراء العرب؟
كتبنا هنا في مقالات سابقة عن "إفلاس النظام العربي الرسمي"، وتجرّده من أي شرعية. واليوم إذ يتحدّث عن حلف مع العدو الأزلي، يتجاوز كلّ الخطوط الحمراء والصفراء والسوداء، ويذهب إلى أسوأ مما يتخيّله أي أحد متلبّس بالكوابيس، و"نكتشف!" أنّ النظام الذي أشبعنا جعجعة بقرارات وبيانات على مستوى "القمة" تتحدّث عن فلسطين بوصفها قضية الأمة الأولى (!) كانت مياه "تفريطه" و"تنسيقه الأمني" مع العدو تسيل من تحت فراشنا، ونحن الشعوب ننتظر التحرير والخلاص ممن كانت يده لا تمتدّ إلى جيوبنا فقط، بل إلى قلوبنا ونخاعنا الشوكي، ليقدّمها وجبة على مائدة الوحش الصهيوني ليبتلعها!
كم هو مثيرٌ للسخرية السوداء، مثلاً، أن نستمع لرئيس وزراء مكلف في دولةٍ أعلنت إفلاسها، يتحدّث عن طرق لإنقاذ بلاده، وهو أحد من يمتلكون الملايين، بل ربما المليارات الكامنة في ملاذات آمنة، وفق تحقيقات أوراق بندورا!
امتدّت الأيادي الآثمة إلى العبث بعقيدة الأمة، ودينها، وتحريف أو شطب كل ما من شأنه إغضاب حاخامات كيان العدو الإرهابي
ليست القصة متعلقة هنا بالمستوى الاقتصادي، ولا حتى بالسياسي، رغم ما فيهما من تحطيم لكلّ الخطوط وحرق كل المحرّمات، بل وصل التخريب إلى ما هو أكثر خطراً من هذا كله، فقد امتدّت الأيادي الآثمة إلى العبث بعقيدة الأمة، ودينها، وتحريف أو شطب كل ما من شأنه إغضاب حاخامات كيان العدو الإرهابي، ولو تسنّى لنا النبش في ما تفعله لجان "تطوير المناهج" لرأينا العجب العجاب، ففي أحد البلاد التي تعد نفسها حامية للإسلام والمسلمين يُعاد تفسير سورة الفاتحة بما يتسق مع رؤى مراكز "الاعتدال!" والتسامح والحوار بين الأديان، ويحذف موضوع الخطر الصهيوني بأكمله من أحد الكتب، والأدهى والأمرّ أنه يتم استقبال من تسمى المبعوثة الأميركية الخاصة لرصد معاداة السامية ومكافحتها (المقصود معاداة الصهيونية)، ويقدم لها "الفقهاء" تقريراً عن جهودهم في هذه "المكافحة"!
هذا غيض من فيض، بل نقطة من بحر ما يجري في بلاد العرب من تشويه لوعي النشء، وغسل دماغهم، وإعادة كتابة تاريخهم وعقيدتهم بما يتسق مع مخططات النظام العربي الرسمي الهادفة إلى "تطبيع" علاقاتها مع الكيان، ومد جسور التعاون معه.
إنّهم لا يسرقون أموالنا ولا يبعثرونها على ملذّاتهم، بل يحاولون سرقة عقول نشئنا، ويصادرون مستقبلنا، ويرمون بلادنا في حضن أعدى أعدائنا، فماذا نحن فاعلون؟