لمَ لا يتغيّر الفلسطينيون الآن؟
لم تنته الحرب بين الفلسطينيين ومغتصبي وطنهم، وإنْ توقف إطلاق النار؛ فالحرب التي رأيناها وعشناها لم تكن سوى جولةٍ عابرة من جولات الصراع الوطني الاستراتيجي على الأرض؛ كل الأرض، ومن أجل عودة الشعب، كل الشعب، إلى الأرض التي غادرها الآباء والأجداد قبل 73 عاما. ولهذا، الحرب لم تنته ألبتة، ولا الصراع يمكن أن ينتهي نهاية مبتورة، كما يراد له إسرائيليا وغربيا ولدى المخبولين من رواد "الأمر الواقع"؛ الماضين إلى العمل على أن تكون نهاية الصراع تلفيقية لصالح العدو ومصالحه ومصالح داعميه، ومصالح من يطبّعون ويتحالفون معه اليوم، أو كما يحلم بعضهم في كوابيسهم أن تكون مصالح سلطاتهم الفئوية واستقرارها، إيذانا بانتهاء الصراع.
من المؤسف أن يرنو بعضٌ من الأكثر فئويةً، والأشد انحيازا للعصب الفصائلي، إلى النظر إلى إنجازات جولة الحرب التي تجسّدت فيها، أخيرا، وحدة الشعب والأرض والهوية، وكأنها الانتصار الناجز، بينما وفي واقع الحال لم ير العدو فيها لا نكسةً ولا هزيمةً له، بقدر ما هي نوعٌ من خلخلة قوة الردع، واهتزاز بعض اليقينيات، وهزّة عميقة في وعي رأيه العام، وانقلاب بعضه ليس على حكومةٍ لم يعد "الإجماع الصهيوني" المعهود يوفر لها ديمومة البقاء، وانفراط عقد الاستقرار في الأرض الموعودة باللبن والعسل، حتى بات كثيرون من الذين جاؤوا من أوطانهم، وبقوا يحملون جنسياتها يفكّرون بهجرةٍ معاكسة، في ظل انكسار حكومي تضعضع معه النظام السياسي الذي انفرط عقد انسجامه، ولم يعد قادرا على إنتاج حكومةٍ تعكسها جولة انتخابية واحدة، وقد شهدنا عجز هذا النظام عن بلورة حكومةٍ منسجمةٍ خلال عامين، جرت خلالها أربع جولات انتخابية. وعلى أبواب الخامسة، لم يستطع نتنياهو النجاح في تشكيل ائتلافه الحكومي، فكان "التغيير" عنوان التشكيل الحكومي الجديد الذي جرى الاتفاق عليه أخيرا، على شكل ائتلافٍ حكوميٍّ فضفاضٍ معادٍ لنتنياهو وليكوده ويمينه الاستيطاني المتطرّف، علما أن الائتلاف الجديد لا يقل يمينيةً وتطرّفا وعنصريةً وفاشية.
بعض العرب يقفون إلى جانب العدو جهارا نهارا، ضد الشقيق العربي الفلسطيني الذي استبيحت أرضه واحتلت
مثل هذا "التغيير" حصل مثيل له، وإنْ بأشكالٍ متفاوتة، على مستوى العالم وأنظمته السياسية والشعبية، وإنْ يكن ليس كله لصالح الفلسطينيين، بل وفي صالح كيان العدو، لا سيما لدى المستفيدين والمنتفعين من بقاء ذاك الكيان قويا، للحفاظ على أمن مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة. أما المطبّعون والمتحالفون، فهم أوطى من أن يطاولهم أي تغيير إيجابي، لا سيما في أعقاب جولة حربٍ، أثبتت أن بعض العرب يقفون إلى جانب العدو جهارا نهارا، ضد الشقيق العربي الفلسطيني الذي استبيحت أرضه واحتلت، وأقيم عليها كيانٌ استعماري غاصب، لا يضمر للعرب الآخرين أي خير، بل هو يحاول، مرة أخرى، أن يواصل سرقة ما تطاوله أيدي قطعانه من المستوطنين وغيرهم، والاستيلاء على أي شيء: الأرض والممتلكات والأفكار والتراث والفولكلور والتقاليد، وكل ما ملكت أيدي الفلسطينيين والعرب من إرثٍ حضاريٍّ وتراث مدني وعمراني، جرت وتجري العديد من محاولات طمسه؛ ليس من العدو، بل وللأسف من أشقاء باتوا يصطفون في العلن، كما كانوا سابقا في السر، إلى جانب عدوٍّ تاريخي بائن ومبين، ولا يحتاج إلى هرطقاتٍ سياسية ولاهوتية، وجدل ونقاشاتٍ عقيمةٍ عن سلامٍ موهومٍ ومفاوضاتٍ زائفة، طال انتظار نتائج لها، كانت كل جولاتها مضيعةً للوقت وإدمانا للوهم؛ وقد باتت "أوسلو" الاتفاقات وتطبيقاتها القسرية من جهة، أو عدم تطبيقها من جهة أخرى؛ جرّاء المماطلات والتسويفات والمبرّرات الزبائنية، وإيجاد وقائع استيطانية جديدة على الأرض؛ لا تصلح لإقامة ما يسمى "حل الدولتين"، فأي انتظاراتٍ ممكنةٍ في هذه الحالة؟
ينبغي أن يكون القادة الفلسطينيون أول المعتبرين والمستفيدين من وقائع ودروس الهبّة والانتفاضة ونتائج المقاومة الصاروخية التي فرضت على العدو طلب الهدنة
لقد بلورت العاصمة التاريخية الأبدية لفلسطين، وما يجري فيها من محاولات تهجير وتطهير عرقي وتهويد وأسرلة، عبر تكثيف الاستيطان فيها، وتطويقها بالمستوطنات، وطرد عديدين من سكانها في بعض الأحياء، من قبيل ما يجري في حي الشيخ جرّاح وأحياء أخرى، هذا الوضع، إلى جانب محاولات المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى، بلور هبّة انتفاض شعبي ومقاومة شعبية طال انتظارها، بادرت إليها الجماهير الفلسطينية، فكانت جولة الحرب أخيرا ردّا على صواريخ المقاومة التي أدارتها غرفة العمليات المشتركة التي تضم كل الاتجاهات الفصائلية، بتناغمٍ واضحٍ مع رغبات شعب الأرض الفلسطينية وتطلعاته، حيث أظهر بدوره تناغما خلاقا في كل أماكن وجوده في مواجهة الاحتلال، الأمر الذي كان ينبغي أن يعكس وحدة قيادية كفاحية في كل من غزّة والضفة الغربية، وتنسيقا عالي المستوى في كل من الجليل والمثلث والنقب، والتنسيق مع الشتات المحيط بفلسطين وفي الشتات الأبعد، تجسيدا لوحدة شعب الأرض وكفاحه التحرّري ووحدة أهدافه وتطلعاته التحررية.
أما الآن، وفي أعقاب انتهاء الحرب، بات لزاما إنهاء الانقسام جدّيا، والاتجاه إلى إعادة اللحمة بين أطراف الصف الوطني من دون وساطاتٍ خارجية، فأهل فلسطين أدرى بشعابها، طالما وكالعادة لم تستطع لقاءاتٌ كهذه النجاح في التوصل إلى اتفاقاتٍ ملزمة لكل الأطراف. وهذا بالفعل ما حصل، أخيرا، في أعقاب انفراط عقد لقاء القاهرة، الأمر الذي يعني مواصلة التمترس خلف المواقف المتضادّة لطرفي الانقسام، في عدائهما الفاضح والصريح لمسألة الشراكة الكفاحية الوطنية، والاتجاه، مرّة أخرى، نحو إعادة التموضع والهروب من مهمة إعادة بناء (وتمتين) الجبهة الوطنية العريضة، الكفيلة باستعادة وحدةٍ وطنيةٍ لا بديل لها وعنها، في ظل استمرار حال الانقسام وسيادة روح الأنانية والنرجسية المفرطة، في سلطويتها واستبدادها، هروبا من الواقع إلى شيزوفرينيا أودية الهيمنة، التي لا ولن تقود سوى إلى إنتاج واستحضار النكسات واحدةً وراء الأخرى، وصولا إلى تسييد منطق الانتكاب والانتكاس والارتكاس في الوضع الوطني، على الضد من إشراقاتٍ فرضتها هبّة القدس وصواريخ المقاومة في الحرب أخيرا، لكن التوجهات الفئوية والعصبوية العمياء تكاد تطيحها، وتعيدنا إلى المربع الأول الذي ساد وما فتئ يستعاد منذ العام 2007.
بات لزاماً إنهاء الانقسام جدّياً، والاتجاه إلى إعادة اللحمة بين أطراف الصف الوطني من دون وساطاتٍ خارجية
أحدثت الحرب المترافقة مع هبّة انتفاض شعبي عارم، على كل الصعد الفلسطينية والإقليمية والدولية، وإعادة تواصل الفلسطينيين فيما بينهم، متغيراتٍ يجب أن يعتدّ بها فلسطينيا، وإلا فلن يكون لاستخلاص الدروس أي معنى، وكان ينبغي أن يكون القادة الفلسطينيون أول المعتبرين والمستفيدين من وقائع ودروس الهبّة والانتفاضة ونتائج المقاومة الصاروخية التي فرضت على العدو طلب الهدنة، لكن الأمور في ما بعد تتجه، إلى الأسف، لما يعاكس ذلك، وإلا لماذا أريد إفشال لقاء القاهرة؟ ولماذا لا يتغير الفلسطينيون الآن كي يواكبوا ما أحدثوه من متغيراتٍ في واقع الصراع اليوم؟
أخشى ما نخشاه اليوم، وقبل أن يستثمر الفلسطينيون معطياتهم الكفاحية التي ترتبت على معركتهم أخيرا مع الاحتلال، أن يعمد العدو إلى استرداد زخم قوته وجرائمه العدوانية التي انكسرت بفعل عمليات إطلاق الصواريخ والوحدة الكفاحية الميدانية، وقد تجلّت في كامل الأرض التاريخية الفلسطينية، مستعينا بمجموع عملائه في الداخل، وبمجاميع من أولئك الجدد من المتهوّدين والمتأسرلين في الخارج (العربي) الذين تفاخروا ويتفاخرون بعلاقات الزبائنية الدينية والسياسية التطبيعية مع كيان الاحتلال الاستيطاني لفلسطين. ولا غرابة أن يعمد العدو إلى إثارة مزيدٍ من أسباب الفرقة والتنازع والانقسام، في الصف الوطني الفلسطيني في الداخل، في محاولةٍ منه للرد على انتكاسته المدوية، بل هزيمته المرحلية التي سيكون لها ما بعدها بالتأكيد، في واقع فلسطينيٍّ جديد، يؤسّس لمعطياتٍ أكثر اتحادا، وجدة كفاحية مستجدّة؛ كفيلة بنزع كل الألغام التي تعيق التحرّر من الاحتلال، والاندفاع نحو فلسطين موحدة حرّة من البحر إلى النهر هذه المرّة، وفي مستقبلٍ قريبٍ قرب الحلم الفلسطيني المؤرّق لكوابيس الاحتلال ومستوطنيه ونظامه السياسي المتهالك.