لماذا تفشل مبادرات الفرقعة الإعلامية في مصر؟
لم أفاجأ كثيراً من خبر توقف مشروع "كايرو بايك" الذي أعلنت عنه الحكومة المصرية لتشجيع استخدام الدرّاجات في القاهرة، بل كانت نتيجة متوقّعة منذ الإعلانات الضخمة والاحتفاء المبالغ به للمبادرة، فكما يقولون "الخطاب واضح من عنوانه". فمنذ حوالي عام، بالتزامن مع انطلاق قمّة شرم الشيخ للمناخ، تحدّثت وسائل الإعلام الحكومية باحتفاء شديد عن المشروع لتوفير درّاجات للإيجار بسعر مخفض، وقيل وقتها إنها خطوة عملاقة للقضاء على الزحام في القاهرة، وتعكس توجه السلطة المصرية للحفاظ على البيئة ومواجهة التغيّرات المناخية، وكيف أنها تعكس الاهتمام الكبير بالحفاظ على البيئة ومجاراة الأساليب الحديثة المتحضّرة.
وللأسف، تعودنا أن يكون هناك أمر ما خلف الكواليس، أو أن يكون الواقع مختلفاً عكس المعلن، خصوصاً أننا لم نلمس أي مؤشّرات جادّة خلال الأعوام السابقة توضح اهتماماً من السلطة في مصر بقضايا البيئة والتغيرات المناخية، بل نرى عملياً جهداً دؤوباً في قطع الأشجار وتدمير الحدائق التاريخية واستبدالها بالخرسانات والمحالّ التجارية والمقاهي، وكل ما يمكن استغلاله لتحقيق دخل سريع، بغض النظر عن الآثار البيئية أو قضايا التغير المناخي.
وبالفعل، اتضح بعد ذلك أن مبادرة "كايرو بايك" كانت في الأساس منحةً من المجتمع المدني في سويسرا بتمويلٍ يبلغ 1.5 مليون دولار كما أعلنت الصحف وقتها، وتهدف إلى تشجيع الجمهور على استخدام الدرّاجات في شوارع وسط القاهرة المزدحمة، وتم استقطاع مسار ضيق للغاية للدرّاجات في بعض شوارع وسط القاهرة، لكن من دون ربطها بالإشارات التي تعمل إلكترونياً، وهو ما كان مؤشّراً للمتخصّصين بأنّ التخطيط للفكرة لا يزال ينقصه الكثير.
في بداية المبادرة، تم تشغيل حوالي 250 درّاجة على أن تزيد في المرحلة الثانية، وكان من المفترض زيادة الدراجات إلى 500 في القاهرة، ثم يستمرّ التوسّع في استخدام الدرّاجات وسيلة مواصلات رئيسية في العاصمة كما نرى في عواصم أوروبية عديدة، ولم يتحقّق ذلك بالطبع، فالأمور لا تؤخذ بالأماني والحملات الإعلامية الضخمة. فالمبادرة كانت تحتوي أسباب فشلها منذ البداية، فعلى سبيل المثال، كان تأجير تلك الدرّاجات يتطلب الاشتراك في منظمة إلكترونية للدفع المسبق. وبالطبع لاقى ذلك معوّقات تقنية عديدة معروفة في مصر، مثل تعقيد خطوات استخراج بطاقة مسبقة الدفع أو بسبب عدم توفر إلا مكان واحد فقط لهذا الإجراء. وربما كان من الإيجابي السماح بالاشتراكات اليومية بسعرٍ مخفّض نسبياً، وهو ما شجّع عاملين عديدين في توصيل الطلبات لاستخدام تلك الدرّاجات في أعمال التوصيل للمشتريات، لكن ذلك أيضاً كان له جانب سلبي، حيث شكل ضغطاً كبيراً على المنظومة التي لم تكن مستعدّة لذلك، فلم تتوفّر درّاجات كافية للجمهور العادي، إلى جانب عدم توفّر خدمة الصيانة الدورية. وأضاف انهيار سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار عبئاً آخر، فقد تضاعف سعر قطع الغيار خصوصاً مع غياب البدائل المحلية، وارتفعت تكلفة صيانة تلك الدرّاجات وتشغيلها، فلم تقم الشركة المسؤولة بالأعمال المطلوبة كما يجب.
لا يبدو أنّ ثمّة تغيراً في تفكير السلطة، من حيث الاعتماد على المبادرات المؤقتة والفرقعات الإعلامية التي توحي بأنّ هناك إنجازاتٍ ما
أما مسار الدرّاجات المستقطع من الطريق الرئيسي فلم يساعد كثيراً، فبدايةً كانت غير مطابقةٍ للمواصفات المتعارف عليها دوليا، كما أنها غير مربوطة بباقي شبكة المرور خارج وسط القاهرة، ولم تشدّد السلطات احترام وظيفة تلك الحارات، فشاهدنا بعد عدة أيام السيارات وهي تنتظر داخل تلك المسارات، إما عن جهل بوظيفة تلك الحارات أو عن تعمّد. وكالعادة كان المشاة يعرقلون سير الدرّاجات، فالمشاة في مصر بشكل عام لا يستخدمون الرصيف أو المشايات الجانبية، وهي بدورها يتم احتلالها من أصحاب المحالّ التجارية لعرض بضائعهم.
يعتبر المرور في مصر، بشكل عام، أزمة كبيرة لا تُجدي معها المسكّنات ولا الطرق الجديدة، فغياب تطبيق القانون، وكذلك غياب التوعية بقواعد المرور وحقوق المشاة وحقوق راكبي الدرّاجات لهم هم أساس المشكلة. ولذلك حدثت، بعد أقل من عام، النتيجة المتوقّعة، فتوقّف المشروع بسبب أخطاء التشغيل وبسبب صعوبة توفير قطع الغيار وإجراء الصيانة، وذهبت المنحة السويسرية هباءً.
يتوقف الموضوع كله في الأساس على الإرادة السياسية، فالاهتمام برياضة الدرّاجات وتشجيع الجمهور على استخدامها في التحرّك داخل المدينة أو تشجيع الناس على ممارسة الرياضة عموما لا يكون بالحملات الوقتية أو اللقطات الإعلامية فقط، بل لابد أن يكون هناك إرادة وتخطيط علمي. ولا يكفي، في هذه الحالة، أن يستخدم رئيس الجمهورية الدرّاجة في أثناء زيارته طلبة الكليات الحربية أو في أثناء وجوده في شرم الشيخ، والتي فيها منظومة مرور منتظمة نسبياً، لأنها مدينة سياحية في المقام الأول.
حملاتٌ ومبادرات كثيرة في مصر تكون معتمدة على نظرية اللقطات أو الفرقعة الإعلامية، من دون إدماجها في خطط تنموية طويلة المدى، وهذا هو أساس المشكلة، فشاهدنا حملاتٍ حكوميةً مرتبطةً في الأساس بحدث عالمي ما، أو منحة مقدّمة من جهة دولية، يتم تسويقها للاستهلاك المحلي أو قبيل الانتخابات، ولكن ليست ضمن خطط تنوية مستدامة.
حملاتٌ ومبادرات كثيرة في مصر تكون معتمدة على نظرية اللقطات أو الفرقعة الإعلامية، من دون إدماجها في خطط تنموية طويلة المدى
حملات عديدة ومبادرات راحت أدراج الرياح، لأنها لم تكن جادّة أو مدمجة ضمن خطّة تنموية، وأحيانا تكون الممارسات عكس ما هو معلن، مثل حملة "تحضر للأخضر" على سبيل المثال، فقد كانت الحملات الإعلانية الحكومية تبشّر بعهد جديد من الخضرة والحفاظ على البيئة، في حين ان الجرّافات كانت تقوم بتجريف مساحات شاسعة من الحدائق والمساحات الخضراء من أجل إقامة مبان خرسانية ومولات ومقاه سياحية.
الإرادة السياسية هي المفتاح، فتشجيع استخدام الدرّاجات في مصر يتطلب أكثر من مجرّد حملات وقتية أو عدّة تصريحات، فمنظومة المرور برمتها تحتاج إعادة تخطيط، وأن يتم إنشاء مسارات مخصّصة للدرّاجات في الطرق الجديدة، وأيضا القديمة التي يعاد تأهيلها كل فترة، كذلك تسهيل نقل الدرّاجات من خلال وسائل المواصلات العامة عبر المدن والمسافات الطوية، بالإضافة إلى تطبيق القواعد المرورية بحزم وبدون محاباة لأصحاب النفوذ.
يحتاج الموضوع قراراً سياسياً واقتناعاً لدى السلطة الحاكمة بأهميّة أن تكون الدرّاجات وسيلة تنقل رئيسية، وكذلك وسيلة مهمة للحفاظ على صحّة المواطن وتشجيعه على ممارسة الرياضة. يحتاج أيضا تعديلاتٍ في التشريعات تضمن حماية أرواح قائدي الدرّاجات، وتتطلّب بنية تحتية مدروسة وليست عشوائية، وتتطلب إجراءات حقيقية لوقف فوضى الطرق والمرور في مصر، وتتطلّب تغييرا للثقافة وطريقة التفكير التي تستهر بأرواح مستخدمي الدرّاجات أو تقلّل من شأنهم.
وللأسف. لا يبدو أنّ ثمّة تغيراً في تفكير تلك السلطة، من حيث الاعتماد على المبادرات المؤقتة والفرقعات الإعلامية التي توحي بأنّ هناك إنجازاتٍ ما.