لقاحات كورونا بين العلم والشك ونظريات المؤامرة

11 ديسمبر 2020
+ الخط -

مع تسارع انتشار عدوى فيروس كورونا المستجد، عالمياً، والتي اقتربت من حاجز السبعين مليون إصابة وأكثر من مليون ونصف مليون وفاة، وما ترتب على ذلك من حالة شبه شللٍ عام أصابت العالم بأسره، فإن الأمل الوحيد الذي بقي أمام البشرية هو التوصل إلى لقاحاتٍ فَعَالَةٍ وآمنة، إذا ما أردنا استئناف حياتنا كما كانت عليه قبل قرابة عام. الخبر الجيد اليوم أن ثمَّة لقاحات تمَّ إنتاجها بالفعل، وقد اجتاز عدد منها المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، كما يقول مطوّروها، بنسبة نجاح معلنة تتراوح ما بين 90 إلى 95%. المشكلة، أن نسبة كبيرة من الناس، بما في ذلك في الدول التي توصلت إلى لقاحات، كالولايات المتحدة، ليسوا مقتنعين بأمانها، ويخشون من أعراضها الجانبية طويلة الأمد. وبالتالي، لا قيمة لأي لقاح يتم التوصل إليه إن لم يتم تلقيح الناس به. وحسب خبراء في الأمراض المُعدية والأوبئة، حتى تكون هذه اللقاحات فعالة وتنجح في احتواء انتشار المرض عالمياً، لا بد من أن يتلقاها ما بين 70 إلى 90% من البشر المتشكك أغلبهم بها، دع عنك أنهم غير قادرين على الحصول عليها. هذه هي المعضلة بكل اختصار.

لا تهدف هذه المقالة إلى محاولة إثبات نجاعة (وأمن) اللقاحات المطورة اليوم، والتي تجاوزت الستة على الأقل، ما بين أميركية، وأميركية – ألمانية، وبريطانية، وصينية، وروسية، أو نفي ذلك، فهذا ليس حقل تخصص صاحب هذه السطور. ما تسعى إليه هذه المقالة هو محاولة تأطير الجدل الدائر في الموضوع. 

أسباب القلق العام من اللقاحات ضد كورونا مشروعة، ليس أقلها أن تطويرها لم يتجاوز بضعة أشهر، في حين أن تطوير اللقاحات يستغرق سنين طويلة

بداية، لا بد من الاعتراف بأن أسباب القلق العام من هذه اللقاحات مشروعة، ليس أقلها أن تطويرها لم يتجاوز بضعة أشهر، في حين أن تطوير اللقاحات يستغرق سنين طويلة في العادة. أيضاً، ثمّة تداخل واضح بين العلمي والسياسي في هذا السياق، من ذلك مثلاً ضغوط إدارة الرئيس دونالد ترامب على "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية للتعجيل في إصدار تراخيص للقاحي "فايزر بيونتيك" و"موديرنا". وهناك بعد آخر متعلق بالتنافس الجيوسياسي على الصعيد الدولي، من ذلك مسارعة السلطات الروسية لترخيص لقاح "سبوتنيك في"، في شهر أغسطس/ آب الماضي، من دون اكتمال التجارب السريرية، وهو ما دفع خبيراً طبياً كبيراً في "مجلس الأخلاقيات" في وزارة الصحة الروسية إلى الاستقالة احتجاجاً على ذلك. ينطبق الأمر نفسه على لقاح "سينوفارم" الصيني الذي تمَّ تطويره وتصنيعه من دون بيانات ومعطيات علمية علنية كافية. وإذا كانت تلك التوجّسات مشروعة، وتحتاج إجابات وتطمينات مقنعة، فإن محاولات بعضهم حرف مسارها وتقديم تفسير تآمري لها يغدو أمراً خطيراً.

ما سبق هو بيت القصيد. ثمَّة فرق ما بين تأسيس الشكوك عملياً حول بعض اللقاحات الحالية التي يقول مطوّروها إنها اجتازت الاختبارات السريرية اللازمة، مع ما يعتريها من نواقص وعوار، وتمَّ نشر نتائجها ومنهجياتها في مجلات طبية عالمية عريقة ومحكمة، وخضعت للمراجعات الضرورية، وتأسيس ذلك في نظريات المؤامرة. في السياق الأول، يكون النقاش منهجياً وعلمياً، ومن حق الجميع، بل ومن واجبهم، مواكبة ذلك النقاش والجدال بين الخبراء والعلماء، فنحن نتحدّث عن الأمن الصحي البشري الذي لا ينبغي أبداً أن يخضع لاعتبارات سياسية شخصية ضيقة، أو تنافس جيوسياسي على المسرح الدولي، أو اقتصادي بين الشركات المطوّرة والمنتجة لتلك اللقاحات. أما في السياق الثاني، فإننا أمام حالةٍ من الشعبوية الوضيعة في الخطاب ومناهج الاستدلال الركيكة، واستصحاب خزعبلات ومعطيات ثبت كذبها، أو ليس عليها دليل، وتقديمها كأنها حقائق علمية لا يرقى إليها الشك. الكارثة، عندما يتصدّر ذلك الخطاب الشعبوي التآمري من يُقَدِّمُهم بعض الإعلام خبراء وعلماء. وللأسف، مثل هذا النوع من الخطاب يجد هوى مُتَبَعاً لدى أغلب العوام المهووسين بنظريات المؤامرة. 

تعيش البشرية اليوم أزمة أخلاقية كبيرة مرتبطة بالأزمة الصحية

مرة أخرى، هذا لا يعني أنه لا توجد أسباب وجيهة للشك والريبة بشأن لقاحات فيروس كورونا المستجد، بل الأصل هو الشك وبذل الجهد للتثبت، خصوصاً أننا أمام فيروسٍ مريب، تحوّل إلى ساحة لِتَناطُحِ نظريات المؤامرة بين الحكومتين، الأميركية والصينية، نفسيهما، مع كل طرف يتهم الآخر بالمسؤولية عن نشر الفيروس، وفي بعض الأحيان عن منشئه. إلا أن ما سبق لا ينفي حقيقة وجود الفيروس القاتل، وضرورة إيجاد لقاح ناجع له، أو أن البشرية ستبقى تعيش حالة شبه الشلل الراهنة غير القابلة للاستمرار أبداً، إنسانياً واقتصادياً. وبالتالي، ما يمارسه بعض السياسيين الشعبويين، كالرئيسين الأميركي والبرازيلي، وكذلك بعض أجهزة الإعلام والإعلاميين، بما في ذلك عرب، من تضليل وخلط وتخليط بين الحقائق والخزعبلات يمثل حالة من التواطؤ في القتل. خذ على سبيل المثال الظاهرة التي سلط الإعلام الأميركي الجاد الضوء عليها أن نسبة كبيرة من مرضى فيروس كورونا يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وهم ما زالوا يجادلون في أن الأمر برمته مؤامرة، وأن سبب مرضهم الذي سيفضي إلى موتهم ليس الفيروس! هؤلاء ليسوا ضحايا الجهل فحسب، بل هم ضحايا سياسيين أنانيين وضيقي الأفق، وأجهزة إعلام رديئة، وإعلاميين تافهين، و"خبراء" و"علماء" مزعومين شعبويين، تعجب كيف تخرّجوا من الجامعات بأعلى الشهادات.

سنبقى نعاني من الوباء الأخبث الذي اخترق فيه سفهاء وتافهون الوعي الإنساني، مستغلين الثورة التكنولوجية في وسائل التواصل الاجتماعي

تعيش البشرية اليوم أزمة أخلاقية كبيرة مرتبطة بالأزمة الصحية، قادت كذلك إلى تكثيف حالة الصراع القائمة بين العلم والعلماء من جانب والشعبويين والشهرة المُتَحَصِّلَةِ من جانب ثان، من العزف على أوتار الدهماء. ومن ثمَّ لا تعجب أن ترى "خبيراً" عربياً في الأمراض الوبائية اعتبر، قبل أشهر قليلة، أن علاج الفيروس يكون بغرغرةٍ بماء وملح، ثمَّ انتقل إلى استصحاب نظريات المؤامرة بعد أن تسبب، بشكل غير مباشر، بمقتل مئات وربما آلاف، ضيفاً، غير مرة، على أكثر البرامج التلفزيونية العربية شهرة وغوغائية وشعبوية. ولا تعجب من تناطح من يقدّمهم بعض الإعلام العربي والعالمي "خبراء" على شاشات التلفزة بشـأن دراسات علمية طبية محكّمة، يعضدونها وينسفونها، وهم يلفظون ويلوكون مصطلحاتها بشكل خاطئ، ويسيئون تقديم معطياتها ومناهجها، ببساطةٍ لأنهم لم يقرأوها بشكل مستوفٍ أصلاً. ينطبق الأمر نفسه على بعض رجال الدين الذين لم يكتفوا بالخلط بين البلاء والتعامل معه، بل وجدنا بعضهم ينسج نظريات مؤامرة من مثل ذلك الذي زعم إن ثمَّة نصباً تذكارياً في أميركا لشخص من القرن التاسع عشر دعا إلى التحكّم بأعداد سكان الأرض من البشر عبر الأمراض والأوبئة، وبأن هذا مخطوطٌ في ذلك النصب التذكاري الذي تنفذه اليوم باقتدار جهاتٌ خفية! 

بكلمة، نحن بحاجة اليوم إلى تحرير العلم من الخزعبلات، وإلى التفريق بين العلماء والشعبويين. كما أننا بحاجة إلى إيجاد معيار للتوازن السليم بين المنهجية الموضوعية والشك الذي يغذّي الهواجس النقدية في أفق الاقتراب من الموضوعية نفسها. بغير ذلك، ستبقى البشرية تعاني من هذا الوباء الفيروسي الخبيث وتداعياته، سواء المترتبة على رفض اللقاحات أم قبولها من دون تمحيص وتثبت. الأدهى، أننا سنبقى نعاني من الوباء الأخبث الذي اخترق فيه سفهاء وتافهون الوعي الإنساني، مستغلين الثورة التكنولوجية في وسائل التواصل الاجتماعي.