لسان الإسرائيلي السليط

09 ديسمبر 2023
+ الخط -

لعل من يتابع الأوساط الإسرائيلية ينتبه إلى عشقهم قول كل ما يدور في الغرف المغلقة علناً، فألسنتهم سليطة. لا يعني ذلك إقراراً بالجرائم المرتكبة في غزّة، لكون الإسرائيليين لا يعتقدون ذلك، بل في التسابق إلى إعلان فشلهم أو محاربة بعضهم بعضاً، إعلامياً وسياسياً. وما تفتيش رئيس الأركان في جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، قبل دخوله إلى اجتماع مجلس الحرب، سوى محطّة صغيرة في سياقات هائلة تعصف بصنّاع القرار الإسرائيليين.

لم يكن اعتيادياً، مثلاً، حديث الإسرائيليين عن فشلهم في استثمار أكثر من 300 مليون دولار ممنوحة من الأميركيين منذ عام 2016، لمعالجة الهواجس التي تشكّلها أنفاق غزّة لهم. ولم يكن تقليدياً تباري أفيغدور ليبرمان ويئير لبيد على مهاجمة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، والمطالبة باستقالته. ولم يكن أيضاً طبيعياً أن يواصل القضاء الإسرائيلي عمله في التحقيق بقضايا متورّط نتنياهو بها.

في الأساس، التفكير في متابعة الأعمال كما كانت عليه قبل "الحرب الوجودية"، بحسب الاحتلال، تعني أمراً من اثنين: إما أن إسرائيل واثقة بانتصارها في غزّة، إلى درجة أنها تتابع يومياتها، وضمنهم عودة النشاط الرياضي إلى أنديتها. أو أن الفوضى التي تشهدها إسرائيل تدفعها إلى عشوائية السلوكات والقرارات. هنا، لا يمكن الركون إلى اعتبار أن إسرائيل في فوضى، وأن نهايتها قريبة، بل الاحتكام إلى العقل وفهم كيفية تأمينها استمرارية أمورها اليومية وكأن شيئاً لا يحصل في قطاع غزّة، خصوصاً مع ارتفاع الكلفة البشرية لجنود الاحتلال الذين يُقتلون في القطاع.

يعمل الإسرائيليون في العادة وفق أنماط متبدّلة، بغية تضليل أعدائهم، وما تسمعه من نتنياهو مثلاُ بالأمس قد تسمع غيره اليوم، وقد يخرج بخيارٍ ثالث غداً. ليس الأمر بتفصيل ابن ساعته، بل في سياق مخطط له، من أجل إرباك الفلسطينيين والعرب وكل مؤمن بالقضية الفلسطينية. يشبه هذا الوضع محاولة للإلهاء، شبيهة بالكذبة أدلى بها متحدّث عسكري إسرائيلي في عدوان مايو/أيار 2021، حين ذكر للإعلام أن غزواً برّياً على وشك أن يحصل للقطاع، ما غيّر من إجراءات التحرّك داخله، قبل أن يتراجع الإسرائيليون ويشنّوا غاراتٍ كانت الأقوى في حينه. الأمر شبيه أيضاً بما فعله آرييل شارون، حين كان وزيراً للأمن ومهندساً لاجتياح لبنان في 1982. وقتها، أقنع شارون رئيس الوزراء في ذلك الوقت، مناحيم بيغن، بأن غزو لبنان سيكون لكيلومترات محدّدة، قبل أن تتغير معالم الاجتياح، لأسباب مرتبطة بمطاردة الفلسطينيين، والوصول إلى بيروت.

من شيم الاحتلال التفوّه بأكاذيب كثيرة، وفي ذلك استراتيجية تثير الغموض مما قد يحدُث، وألف خط تحت "قد"، يضع الطرف الآخر في موقع تائه. وفي هذه الاستراتيجية، يلتقط الإسرائيليون أنفاسهم، لبناء هجومهم، المضادّ أو الاستباقي. وهنا يأتي دور المقاومة. لا يمكن الاستناد إلى البرامج التلفزيونية في إسرائيل، الزاخرة بالانتقادات المتبادلة والشتائم المتلاحقة، ولا إلى الاقتناع بتحليلٍ في صحيفة إسرائيلية، تُشرح فيه كيفية القضاء سياسياً على نتنياهو بعد انتهاء العدوان على غزّة. وأيضاً لا يمكن التصديق أن ليبرمان ولبيد سيواجهان نتنياهو حتى سقوطه، في حال كان ذلك السقوط مفيداً للفلسطينيين، قبل غيرهم. ليست إسرائيل "دولة" غربية مهما أرادت ذلك، فمن أساسيات تلك الدول أن شعوبها قادرة على الاعتراض على أنظمتها، ومساندة حقّ الفلسطينيين. فهل ستسمح إسرائيل بتظاهرات موالية للفلسطينيين فيها؟ تكفي الاعتقالات الحاصلة بسبب "لايك" داعم لغزّة على وسائل التواصل الاجتماعي، لفهم ماهية الحقيقة الإسرائيلية: عنصرية لا حدود لها، وشعور بالتفوّق على كل البشر بشكل أكبر من مفهوم القبح بحد ذاته.

أما الاعتقاد أن "مرحلة ما بعد نتنياهو" ستكون أفضل للفلسطينيين، ففي ذلك وهمٌ إلا في حال فُرضت على خلفاء نتنياهو العدالة للفلسطينيين. وإذا كانت المحاكم الدولية غائبة عن الجرائم الإسرائيلية في أوقات العدوان، فهل ستحضُر في أزمنة السلم؟ طبعاً لا.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".