لجنة العفو في مصر.. وفاة جديدة لدولة القانون
كلما اشتدّت أزمات النظام المصري، بسبب الأوضاع الاقتصادية التي مثلت حجر عثرة للكبار، فما بالنا بالصغار والدول المفلسة، لجأ إلى إطلاق استراتيجية أو تشكيل لجنة نوعا من التسويف أو الخداع السمج للالتفاف على المطالب الشعبية أو تهدئة الأوضاع أو تخفيف الضغوط الخارجية التي تمارس عليه، وخصوصا في ملف حقوق الإنسان.
لجنة العفو القديمة الجديدة، المقيدة في صورها وأشكالها السابقة، على الدوام، بقيود النظام ورغباته، ولدت هذه المرّة، بشكل مفاجئ، في إفطار الأسرة المصرية في 26 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، من دون أن تنفصل عن رَحِمه، تحمل جيناته وبذور الكراهية والحقد في عيون شخوصها وسلوكيات أعضائها، على عكس لجنة العفو السابقة التي ترأسها أسامة الغزالي حرب، فيما كان ابن أخيه، شادي الغزالي، أحد مشاهير السجناء حينها، ولم يفرج عنه إلا بصعوبة، بعد أن طارده وحاصره غضب الأسرة، وخرجت مناشداتهم إلى وسائل الإعلام، ما مثل إحراجاً بالغاً له، قبل أن تصاب اللجنة بالسكتة الدماغية، ويتوقف تضمين الإفراجات أي معتقل سياسي، بقرار سيادي، سنوات!
تطرح لجنة العفو الجديدة، بحجمها وتشكيلها وتوقيت ظهورها، تساؤلاتٍ عديدة: هل تملك بتشكيلها الأمني مقومات لعب دور المنقذ؟ لماذا يحتاج عبد الفتاح السيسي من الأساس إلى لجنة للعمل على العفو والإفراج عن المعتقلين السياسيين، طالما أنه، هو وأجهزته الأمنية، من اعتقلوهم. وحكمت عليهم المحاكم التابعة له، وقيدتهم بالقوانين الاستثنائية التي وضعها عن طريق برلمانه الذي هندسته الأجهزة الأمنية التابعة له بشكل مباشر؟
يُعتقد في كل الأحوال أن لجنة العفو الرئاسي الجديدة تتبع جهازا أمنيا نافذا، ما يفسر على أنها نتاج تضارب في الرؤى بين الأجهزة الأمنية والسيادية
لو كان الهدف من اللجنة إيجاد الحلول وتصحيح الأوضاع، والعمل على رد المظالم وإحقاق العدالة وتعويض الضحايا، فهذا لا يتأتى بلجنة عُرفية يجري إنشاؤها بوعد مباشر من السيسي، والسماح لها بتجميع البيانات، ودعوة المواطنين إلى التعاطي معها بديلا عن الطرق المشروعة. وهو ما اعترض عليه الفقيه القانوني، نور فرحات، بالقول: "أن يطول الحبس سنوات، ثم يفرج عن المتهم، بتوصيةٍ من لجنة مشكلة رئاسياً، يعني أن سلطة التحقيق قد حبست الناس من دون مقتضى، ثم أفرجت عنهم بإيعاز من لجنة غير قضائية".
إنشاء لجنة عرفية لحل أزمة ملف المعتقلين السياسيين، بديلا عن الطرق القانونية، هي شهادة وفاة جديدة لدولة القانون، وتأكيد آخر على ملامح دولة الاستبداد التي تنزع كل ما هو قانوني، وترسخ كل ما هو فوضوي ارتجالي على هوى الحاكم أو الديكتاتور الأوحد. وقد تجاوزت اللجنة الجديدة، بغرابة شديدة، لجنة الحوار الوطني التي أطلقها أنور السادات، الذي يلقى قبولاً دولياً، وكانت تتسم، على الرغم من براغماتيتها، بقدر من التوازن، والقدرة على التواصل، خصوصا الخارجي، واللعب أو الحركة فيما هو متاح، وجرى لاحقاً تعيين أغلب أعضائها في المجلس القومي لحقوق الإنسان، وسبق تقديمها لجهاتٍ غربيةٍ سياسيةٍ وحقوقيةٍ عديدة، بالتزامن مع إعلان الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي ثبت أنها لا تحوي رؤية ولا فلسفة ولا ضمانات ولا إجراءات ولا حتى وعودا، وأنها مجرّد جثةٍ لا يُرجى من ورائها حياة، على أنها اللجنة المعتمدة من النظام، وأنها نافذة جهاز سيادي معنيٍّ بالعمل على ملف المعتقلين السياسيين!
يُعتقد في كل الأحوال أن لجنة العفو الرئاسي الجديدة تتبع جهازا أمنيا نافذا، ما يفسر على أنها نتاج تضارب في الرؤى بين الأجهزة الأمنية والسيادية بشأن طريقة التعامل مع ملف المعتقلين الشائك؟ خصوصا أن نظام يوليو 2013، يحمل في بنيته بذور اللامركزية الأمنية، اعترافاً منه بدور تلك الأجهزة في إفشال، ومن ثم الانقلاب على سلفه الراحل محمد مرسي، وظهر ذلك واضحاً في الانتخابات البرلمانية التي جرت هندستها على طريقة نظام حسني مبارك.
نحن أمام صراع أجهزة واضح، كل جهاز أصبحت لديه لجنته الخاصة وممثلوه وأفكاره ورؤاه ومصالحه، ووسائل إعلامه ونوافذه
وبحسب ما يدور في الكواليس، عبّر الجهاز الأمني النافذ والمسؤول بالكلية عن السجون، مراراً، عن عدم رضاه عن طريقة عمل الجهاز السيادي ولجنة السادات أو المجلس القومي لحقوق الإنسان، رغم ضعفه وعجزه، في ملف المعتقلين. ورغم الضغوط الخارجية، يعطل التضارب والتنازع بين الأجهزة السيادية والأمنية بعض الإفراجات أو يعدّل القوائم، أو يمنع النشطاء السياسيين من السفر.
لم ينكر أنور السادات، أعيد وأكرّر "شديد البراغماتية "، أنّ المقايضة مع أجهزة الداخلية وغيرها شديدة الصعوبة، وأنّها ربما تراجعت مراراً عن الإفراج الفعلي عن أعدادٍ لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أو أجلت ذلك لأشهر، بعد التوصل إلى قرارات. وقد اعترف السادات، بقصد أو بدونه، بوجود لجنة أمنية لا دخل للقضاء ولا النيابة فيها، تقرر مصير السجناء!
نحن هنا أمام صراع أجهزة واضح، كل جهاز أصبحت لديه لجنته الخاصة وممثلوه وأفكاره ورؤاه ومصالحه، ووسائل إعلامه ونوافذه، وناطقون عنه، والضحية في كل الأحوال هم المعتقلون، خصوصا الإسلاميين، الذي يخضع ملف تحريرهم لمساومات وحسابات وتنافس أعمى وتنازع قد يستمر سنوات.
وعلى الرغم من اللمسة الحانية المصطنعة للرئيس السيسي، وهو يبشر باللجنة، وتأكيد عضو اللجنة، طارق العوضي، المحامي، "أن السبع سنوات العجاف قد انتهت … والأيام المقبلة مختلفة تماما عن السبع سنوات الماضية"، فإن آراء أعضائها الحقوقية والقانونية والسياسية، خصوصا الأمنيين، كانت متشنجة، وبعيدة كل البعد عن مضمون كلمة "عفو"، وتضمنت انتهاكات صريحة وتمييزا بحق المعتقلين السياسيين.
الإيجابي في مناورة العفو أنها فتحت باب أملٍ، ولو ضيقا، أمام أسرٍ كثيرة، كما مثلت اعترافاً صريحاً بوجود عشرات آلاف من سجناء الرأي
وعليه، سيظل ملف الاعتقال السياسي في عهد نظام السيسي، كما ملف الإرهاب، مرتكزين لمناورة تتبعها مناورة، ووسيلة لتجديد البروباغندا الإعلامية في ظل انتكاسة اقتصادية وأزمة مجتمعية وشيكة، وعدم وجود رغبة حقيقية لدى النظام في وقف جرائمه وانتهاكاته بحق معارضيه، ودليل على تخوّفه من أن فتح نافذة للتسامح ربما يسرع من وتيرة إطاحته. إذ يكشف معتقلون سابقون أن حالة من الهلع، الحقيقي، كانت تسيطر على قادة الجهاز الأمني النافذ، في أثناء أحداث سبتمبر 2019، وأنهم جرى تهديدهم في أثناء متابعتهم الدورية في المقرّات الأمنية حال مشاركتهم في أي تظاهراتٍ يدعو إليها المقاول السابق في الجيش، محمد علي. في المقابل، جرى التأكيد عليهم بالاستقرار والأمن الذي يحيون فيه، وعدم اقتحام منازلهم وترويع أبنائهم، وإبداء الرغبة فى تقديم أي مساعداتٍ لهم طالما التزموا بالخط الذي فُرض عليهم ورُسم لهم.
الإيجابي في مناورة العفو أنها فتحت باب أملٍ، ولو ضيقا، أمام أسرٍ كثيرة، كما مثلت اعترافاً صريحاً بوجود عشرات آلاف من سجناء الرأي، بعد أن كان الرئيس ينفي وجودهم من الأساس! وكان الكاتب، في مقال سابق في "العربي الجديد"، قد رأى أنه ربما فرضت الضغوط على النظام، أخيرا، أن يبرّر أفعاله، أو يفصّل بين المقدّمات التي ادّعاها والنتائج التي وصل إليها، وأنه لن يتخلى عن وضع معادلة القمع بموازاة ظاهرة الإرهاب، وسيظل يقتات على مخلفاتها، وتأصيل الكراهية، وبث الخلافات المجتمعية، وتدوير الاعتقالات، رأس مال وحيدا لضمان بقائه! وأزيد وأكرّر أن إجباره على تبييض ملف الاعتقال السياسي هو تقليم لمخالبه، وهي الخطوة الأولى لوضع حد لجموحه وتهوره. غير ذلك سيقع البلد في آتون أزماتٍ لا سبيل لتجاوزها أو الخروج من مستنقعها.