لبنان في بيانيْن
واحدةٌ من اختلالاتٍ عميقةٍ أحدثتها ثقافة السوشيال ميديا، (عربيا)، أنها ضربت اعتبارية المثقف، وخصمت من مكانة الكاتب، وشوّشت دور الإعلامي. وقد ساهم مثقفون وكتابٌ وإعلاميون عربٌ في هذا، عندما ارتضوا لأنفسهم ما لا صلة لصفاتهم به، واللعب في غير ملاعبهم، ولم يحرصوا على صيانة الحيّز الذي يختصّ به شغلهم. ومن هذا القبيل، عندما يقول واحدُنا إن مسارعة مثقفين وكتّابٍ وإعلاميين إلى اتهام حزب الله، بكيفيةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، في واقعة انفجار مرفأ بيروت، أخيرا، فعلٌ غير جائز، مبدئيا وجوهريا، سيّما في فضاءاتٍ مكشوفةٍ كما "السوشيال ميديا"، فإنه لا يُصادر حقّ أيٍّ كان في التعبير عن رأيه وإعلان موقفه. ببساطةٍ، لأن أهل الثقافة والإعلام ليسوا محقّقين ولا جهات اتهام، وإنْ لكل فردٍ كل الحرية في تعيين المسؤوليات عن واقعةٍ معينةٍ على أصحاب المسؤوليات، من باب أن تسمّما في مدرسةٍ في قرية سودانية سيعني مسؤوليةً محدّدةً على وزير التربية والتعليم السوداني، لكن هذا لا يعني اتهام الوزير باقتراف التسميم.
مناسبة المجيء على هذه البديهيات التي صارت التباساتٌ شديدةٌ تلحق بها بيانان صدرا في اليومين الماضيين، موقّعان من نخبتين طيبتين من المثقفين العرب، غير أن المسافة بينهما شاسعة، تجعل أحدَهما رفيع القيمة والأهمية، في لغته ومنطقه، سيما وأن الموقعين عليه لم يتجاوزوا مناطق فاعليتهم، أهل فكر وثقافة، وهم يأتون على مبادرةٍ محدّدةٍ من أجل لبنان مدني ديمقراطي، ويؤشّرون إلى ما أعمله زعماء الطوائف الحاكمون في هذا البلد. فيما البيان الآخر انفعالي، يرتجل اتهاما جنائيا (إلى حدٍّ بعيد) لجهةٍ محدّدةٍ في لبنان، ويركّز عليها، بشأن تفجير المرفأ، ويذهب إلى تفاصيل عابرة (هل يُشغل مثقفون أنفسهم في بيانٍ للرأي العام بتصريحٍ متعجلٍ لوزير؟!)، ويأتي على ما هو غير محسومٍ في غير شأن، الأمر الذي أضعف المراد من المنطوق العام للبيان، والذي لا أحد يجادل فيه، التضامن مع لبنان وشعبه وضحايا التفجير. ويعود اتساع المسافة بين البيانيْن إلى أن أصحاب البيان الأول (نُشر أنه صيغ بمبادرةٍ من المغربي عبد اللطيف اللعبي واللبناني عيسى مخلوف) يعرفون أن لأيٍّ منا أن يدوّن ويغرّد ما يشاء، وأن يذيع ما يراه، في وسائط الإعلام، وأن يقول قناعاته أيا كانت، أما التوجّه إلى الجمهور ببيانٍ يتضمّن مواقف يجتمع عليها من يتفقون عليها فأمرٌ آخر. والبادي أن عدم التمييز بين الأمريْن وراء ما في البيان الآخر من مقادير الارتجال والمنسوب العالي للنبرة الاتهامية الظاهرة، ولخلط أكثر من قصّة ببعضها بافتراضِ سياقٍ يلمّها، فيما قد لا يكون هذا مؤكّدا بالضرورة.
أظنها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعطيني حقّ استهجان ما اشتمل عليه "بيان تضامني مع شعب لبنان"، في اعتباره أن القول إن احتمال إهمال إداري تسبّب بكارثة الانفجار في مرفأ بيروت استخفافٌ بالعقول، فلنتخيّل أن تحقيقا دوليا محترفا وشفافا انتهى إلى هذه النتيجة. لا يريد بيان أصدقائنا هذا غير أمرٍ وحيد، إصدار حكمٍ مسبق على حزب الله، قياسا على افتراضاتٍ، صحيحةٍ وأخرى غير مؤكدة، تسبّب الاسترسال فيها بضعفٍ فادحٍ في البيان، ما جعله أشبه بتقريرٍ اتهاميٍّ في منصةٍ إعلاميةٍ لها أجندتها ضد حزب الله الذي تستحق فظائعه في سورية، وأفعالُه في غير ملف في لبنان، كل انتقاد ورفض، غير أن لكل مقام مقال.
باتّزان واعتناءٍ راقٍ بكل مفردةٍ فيه، جاء بيان "الحياة للبنان" على الجوهري والعميق في موضوعه. لم ينشغل من صاغوه، والموقّعون عليه، بما يقيم فيهم من رفضٍ لحزب الله (بعضهم أشدّ سخطا على الحزب من بعض أصحابنا أولئك). ذهبوا إلى الوظيفة الأهم للمثقف، عندما يتوجّه إلى الرأي العام بنداءٍ أو بيان موقف، وهي هنا تتعلق بما صار شديد الإلحاح للبنان ومواطنيه، وما جدّدت التأكيد عليه فاجعة المرفأ. قال البيان كل شيءٍ عما يقترفه الحاكمون في لبنان الذين يتعاملون معه كغنيمة حرب. لم يعيّن طرفا محدّدا، لأنه يشمل الجميع. وجاء على ما يهدّد وجود لبنان نفسه، وانعكاس ذلك على المنطقة، ونادى بإسقاط الطبقة الفاسدة..
بإيجاز، لا تنكتب بيانات المثقفين بالنيّات الصادقة، ولا بالانفعالات المتسرّعة، وإنما بمعرفة كاتبيها مساحاتِهم، وهذه، بداهةً، أوسعُ من فشّة خلقٍ ضد حزب الله أو غيره.