لبنان على حافّة كاريش

15 يونيو 2022

لبنانيون يؤكّدون في الناقورة (جنوب) على حقوق لبنان من النفط والغاز (11/6/2022/فرانس برس)

+ الخط -

وسط الجدل بشأن الحدود البحرية بين العدو الإسرائيلي ولبنان، وتحديدًا حول خط 29 الذي يتضمن جزءًا من حقل كاريش، بات وصول المنصة العائمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصنيعه وتخزينه، التابعة لشركة إينرجين باور، إلى الحقل، أمرًا واقعًا، والتنقيب أصبح مسألة وقت.

لم تتحرّك سفينة التنقيب عن النفط اليونانية "إنرخين باور" من تلقاء نفسها إلى حقل كاريش المتنازع عليه بين السلطة اللبنانية وإسرائيل، في المياه الإقليمية لجنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة. بل جاء ذلك نتيجة "كلمة السرّ" التي أعطتها الإدارة الأميركية لحليفتها إسرائيل في المنطقة للتحرّك عبر التنقيب، علّ ذلك يحفزّ عملية التفاوض غير المباشرة بين الطرفين، للوصول إلى نهاية سعيدة ترضي الجميع.

كلمة السرّ الأميركية، على ما يبدو، تلقتها السلطات اللبنانية من خلال سفيرة الولايات المتحدة في بيروت، دورثي شيا، التي نقلتها إلى المعنيين، وقد تكون تحمل قرارًا بالسماح للبنان بالبدء في التنقيب واستخراج الثروة النفطية، تمهيدًا لتصديرها وبيعها. دفع هذا الأمر رئيسي الجمهورية، ميشال عون، والحكومة نجيب ميقاتي، لعقد لقاء بينهما، انتهى بدعوة المفاوض الأميركي، آموس هوكشتاين، للحضور إلى بيروت واستكمال التفاوض بالطرق الدبلوماسية. فهذا إن دلّ على شيء، فعلى الحاجة الملحة للوصول إلى تسوية شاملة في هذا النزاع عند مختلف الأطراف.

استخراج النفط في حقل كاريش والبلوك رقم 9 في لبنان وغيرهما حاجة ملحة للولايات المتحدة، وحليفتها أوروبا، فالحرب في شرق أوروبا، تطول، وتستنزف قدرة الغرب على مدّ الجيش الأوكراني بالأسلحة. والعقوبات التي تمّ فرضها على روسيا لم تؤت ثمارها بعد، وقد قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لوكالة تاس الروسية إن "الحرب لن تنتهي إلا بعد تحقيق أهدافها". وهنا المعضلة.

الجميع في لبنان مدركٌ عمق الأزمة الاقتصادية التي يتخبّط بها لبنان، كما وأن الجميع مدرك أن الخروج منها لن يكون إلا عبر استخراج النفط والغاز وتصديرهما

لا يتوقف القلق الغربي على حرب الاستنزاف، ولا على إحداث أزمة غذائية عالمية نتجت عن حرب أوكرانيا، وهي أزمة الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية، ما بات يهدّد الغذاء العالمي. بل أيضًا هناك قلق جديّ مرتبط بالتخوف الحقيقي من عدم إيجاد طاقة غاز طبيعي مسال بدلًا من الغاز الروسي. حيث تفيد الدراسات بأنّ أنبوب نورث ستريم 2 الروسي التابع لشركة غازبروم المملوكة من السلطات الروسية، يشكّل شريانًا حيويًا في تمويل حرب روسيا في أوكرانيا. لهذا يعمل الغرب على "تسكير حنفية" هذا الأنبوب، علّ ذلك يسرع قرار بوتين بوقف الحرب والانسحاب بجيشه إلى داخل الأراضي الروسية.

إذًا، بات أكثر من واضح الاهتمام الأميركي لتفعيل المفاوضات غير المباشرة على حقول النفط وآبار الغاز بين لبنان وإسرائيل. هذا ما يعطي أملًا إضافيًا لأوروبا، بأن إيجاد البديل عن الغاز الروسي بات ممكنًا، حتى ولو كان ذلك سيتطلب مزيدا من الوقت بسبب عملية التنقيب والاستخراج والتصدير للنفط والغاز على السواء. وقد يكون للغرب الأوروبي والأميركي حاجة ملحة لإنهاء المفاوضات، ولكن لاسرائيل رغبة قوية بالوصول إلى تسويةٍ عادلة، لأنّ عملية التصدير ستعزّز مكانة إسرائيل بين جيرانها في الشرق الأوسط وفي العمق الأوروبي. إذ سبق أن أعلن وزراء خارجية قبرص واليونان وإسرائيل، في 5 إبريل/ نيسان 2022، أن الدول الثلاث ستواصل العمل معًا في مشروعات خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، مع توجه أوروبا نحو تحقيق استقلالية الطاقة، وهو الواقع الذي خلّفه الغزو الروسي لأوكرانيا، وفقًا لما نقلته وكالة رويترز.

على الجبهة اللبنانية، لا تقلّ المشهدية حماسة لدى المسؤولين في هذا البلد، عن حماسة الغرب، من الإسراع في عملية التنقيب. إذ عبّر أكثر من طرف لبناني مسؤول عن النية بإنجاح المسار الدبلوماسي في التفاوض، وتغليبه على التصعيد العسكري، رغم حديّة التصريحات التي يطلقها الجانبان. فقد هدد قائد الجبهة الشمالية في جيش العدو الإسرائيلي بأنّ "أي عملية عسكرية على حقل كاريش ستعتبر عملًا عدائيًا على إسرائيل وستردّ بحرب تدميرية للبنية التحتية للمناطق الحدودية".

لبنان لن يتنازل عن حقه بالثروة النفطية، إلا أنّ الخيار للحل الدبلوماسي وليس العسكري

في بالمقابل، صعدّ حزب الله من لهجة خطابه في تحذير إسرائيل بالبدء عن التنقيب في المناطق البحرية المتنازع عليها، واعتبر أمينه العام، حسن نصرالله، أنّ أي خرق للسيادة اللبنانية سيشعل الجبهة دفاعًا عن حقوق لبنان من ثروته النفطية. وفي مقابل التحذير والوعيد، كلّف الحزب نواف الموسوي بملف الحدود البحرية، وتنسيق المواقف مع القوى السياسية، ما يدلّ على عدم الرغبة بالتصعيد العسكري في هذه الجبهة، رغم تصاعد وتيرة الخطابات من هنا وهناك، ورمي الاتهامات على بعض.

صحيحٌ أن لبنان لن يتنازل عن حقه بالثروة النفطية، إلا أنّ الخيار سيترك للحل الدبلوماسي وليس العسكري. هذا ما كشفته مصادر مقرّبة من الرئاسات الثلاث في لبنان، حيث الجميع مدرك عمق الأزمة الاقتصادية التي يتخبّط بها هذا البلد، كما وأن الجميع مدرك أن الخروج منها لن يكون إلا عبر استخراج النفط والغاز وتصديرهما، سيما وفي هذا الوقت الذي تحتاجه أوروبا.

أخيرًا، يقف لبنان، البلد المنهار والمنهوب من مسؤوليه، والمتروك دوليا والمعزول عربيًا بسبب دور حزب الله الإقليمي، يقف على حافّة حقل كاريش ويتراقص، فإمّا تصل المفاوضات إلى تسويات على اعتبار خط 23 خط التفاوض، أو يقع في قعر الجحيم، حيث الفوضى الأمنية والاجتماعية قاب قوسين من اشتعال نيرانها، لذا يكون خط 29 بالنسبة للمفاوض اللبناني خطًا للمناورة لتحقيق المكاسب، وليس خطًا ثابتًا غير قابل للتفاوض.