لبنان: صبرٌ وأهراءات

06 اغسطس 2022
+ الخط -

عامان مرّا، كما مرّ قبلهما 47 عاماً على اندلاع الحرب اللبنانية، و79 عاماً على استقلال لبنان. لا شيء تغير، ولا شيء سيتغير، طالما أن القواعد المعمول بها في لبنان أساسية في جوهر الحياة اليومية للبلاد. الظالم يمسك كل شيء، من سلطة وقضاء ومؤسّسات ومصارف. الظالم متشبّع بكل الموبقات الناجمة عن "الدفاع عن حقوق الطوائف والمناطق". ظُلمنا في لبنان نابع من اعتقادنا أن كل شيء سيعبر. وها قد مرّت 79 عاماً ولم يعبر شيء. تغيّر الأشخاص والأحزاب. منهم مولود من عائلات تُعدّ سياسية وإقطاعية، ومنهم صنع "مجده" في حربٍ أهلية نجا منها هو، وسقط من كانوا جنوداً ومدنيين فيها، ومنهم من يلوذ بطرفٍ دولي أو إقليمي، ليبني سلطة ما، معتقداً أنه خالد بموجبها. سقط أشخاصٌ كثيرين ورحلوا، بعدما ظنّوا أنهم لن يموتوا، وأن جنون عظمتهم ستجعلهم آلهة متناسلين من حضارة الإغريق.

جميعهم طالبوا الناس بالصبر والانتظار والاستعداد للغد الآتي. لا الصبر نافعٌ، ولا الانتظار مجدٍ والغد لم يطلّ. لا تتعلق الأمور بمصادفةٍ ما، ولا بسوء حظ، ولا بضغط خارجي. كل شيء مرتبط بالمهيمنين على القرار في البلاد، المستمتعين بتجليات قضاياهم في عقول المواطنين. يكسر اللبنانيون حدوداً طائفية؟ نصنع لهم مشكلة دموية. يطالبون بحقوقهم الاجتماعية؟ نربطها باتفاق فيينا النووي. يدعون إلى تأمين حقوقهم البديهية بالطبابة والتعليم والطاقة والغذاء؟ نفتح إشكالاً إعلامياً لرمي المسؤوليات بعضنا على بعض، فتضيع الحقوق باسم شعاراتٍ لم تُترجم يوماً إلى أمر واقع.

ها هم اللبنانيون في 4 أغسطس/ آب 2022 يقفون شهوداً على انهيار ما تبقى من أهراءات مرفأ بيروت، حيث الجريمة الأعتى في تاريخ البلاد، غير قادرين على إيصال صوتهم، ولا على فعل ما هو حق طبيعي لهم، كبشر يستحقون الحياة. يزيّنون لهم أن الحياة الحقيقية هي بعد الموت حصراً، فاصبروا.

لا، الصبر لا يتعلق بالسكوت عن جرائم وسرقات ونهب وفساد وتلاعب. الصبر أقرب إلى انتظار عملٍ نقوم به، لنفرح مع اكتماله، سواء كان تشييد مبنى، أو الارتقاء بسلّم وظيفي، أو فرح اجتماعي، أو لعبة رياضية.

لم يكن الصبر يوماً صنواً لانقطاع الكهرباء وشحّ المياه واختفاء الأدوية وتدهور الأسعار وعدم الحصول على الغذاء وإخراج التلاميذ من مدارسهم، بسبب غلاء الأقساط وانعدام فرص العمل وحرمان المودعين من أموالهم. الصبر لا يعني مشاهدة حفنةٍ من الممسكين بالقرار يحتفلون بزفاف أولادهم بمبالغ خيالية، أو تعليمهم في جامعاتٍ خارجيةٍ أو عدم معرفتهم بسعر علبة اللبنة "لأن من يعملون لدينا هم من يشترونها، ونحن لدينا ما يكفي من المال لعدم السؤال عن ثمنها".

وفي النهاية، يدّعون أن الانتخابات أقرّت بحقهم التمثيلي للشعب. طبعاً، لا يتطرّقون إلى الترغيب والتهويل والضغوط على الناخبين، ولا يتحدّثون عن التزوير واستيلاد صناديق وهمية لقلب النتائج، ناهيك عن قوانين الانتخابات المفصّلة على قياسهم. يزعمون أن الحرية هي ابنة لبنان، فيما هي أبعد ما تكون عنه، فما يُدعى "حرية" في هذا البلد ليس سوى جناحٍ من أجنحة العبودية.

سيسقط ما تبقى من أهراءات بيروت قريباً، لكن الصبر المصطنع وحده من يجب إسقاطه، مرّة واحدة وإلى الأبد. إذا نظرت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين إلى محيطها الضيّق، فستجد أن عائلاتها تتوارث المصائب والويلات، فيما حكام هذا البلاد يتوارثون السرقات والفساد. ستجد هذه الأكثرية الساحقة نفسها وكأنها غريبةٌ في أرضٍ استغلها مُستعمر آتٍ من خلف الحدود بالقوة، وتنعّم بخيراتها، واستعبد ناسها، وأشعرهم بحاجتهم إليه وحده، وأوهمهم أن استقلالهم عنه يعني خراباً ما بعده خراب.

في حياة الشعوب، تبقى حروب التحرير من المحتلّين أسهل بكثير من معارك التحرّر الذاتي. والتحرّر وحده يضع حداً لصبرٍ مصطنع، لا غاية له سوى قتل الناس ليحيا هو.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".