لبنان ... تطبيع مع العنف والانهيار
ينشغل لبنان، في الوقت الحالي، بتداعيات انتشار مقاطع مصوّرة تُظهر عاملة في واحدة من دور الحضانة وهي تعنّف أطفالاً. يحتاج الواحد منا لكثير من القوة من أجل إكمال مشاهدة تلك المقاطع وضبط نفسه وصبره. حتى أن ما تردّد عن توجّه أهالي الأطفال المعنّفين إلى منزل "المربيّة" التي قامت بفعلها، ليعنفوها، وجد من يعتبره أقل الممكن.
قد يبدو للبعض ما جرى حادثاً معزولاً، لكن متتبع الأخبار في لبنان لا يمكن أن يتجاوز فكرة انتشار العنف على نطاق واسع. لا يكاد يخلو يوم من حادث قتل أو إطلاق نار بين المواطنين. وتزداد الجرائم بشاعةً مرّة تلو أخرى كتعمّد أحد المواطنين دهس طليقته مراراً بسيارته حتى تأكد من وفاتها بينما كان أطفالها على مقربة، والتقطوا أشلاءها من على الطريق.
والأسوأ أن هذه الجرائم، باختلاف تصنيفاتها، تمرّ مرور الكرام. لكنها فعلياً لا تبدو معزولةً عن فكرة الانهيار الذي يعيشُه لبنان منذ 2019. يبدو الناس وكأنهم قد استسلموا لفكرة أن حدوث هذه الجرائم منطقي في الظروف الراهنة، والحال نفسه ينطبق على التعاطي مع ردود الفعل على بعض الجرائم بما تحمله من عنفٍ مضادّ يوضع تحت خانة الثأر في أحيان كثيرة. وهذا يظهر أنه كلما تلاشت الثقة بالدولة والقانون والمحاسبة تحوّلت البلاد إلى غابة مشرّعة لكل أنواع المخالفات والجرائم والردود التي تستتبعها.
وعليه، لم يعد انهيار لبنان فقط سياسياً واقتصادياً، بل هو مجتمعي أيضاً. الدولة بما تمثله من سلطة تفرض القانون وتطبّقه وتحتكر القوة لا تبدو قائمة اليوم على الأرض. وفي الأساس، خلص اللبنانيون إلى أن استمرارهم يعني الاستغناء عن كل ما له علاقة بفكرة الدولة ومسؤوليتها وخدماتها. كما ترسّخت لديهم قناعة بأنهم كلما ابتعدوا عنها زادت فرص صمودهم، وكلما ارتبطوا بها تعقدت مناحي حياتهم.
والمواطن هنا بالنسبة لدولته ليس أكثر من كائن بشري يجب التنكيل به. تسير مؤسّسات "الدولة" في حدّها الأدنى. من لديه معاملة في الدوائر الرسمية تمتد فترة انتظاره لأسابيع بل أشهر نتيجة إضرابات متكرّرة وعمل إداري يمضي بالقطّارة إلا إذا اختار أن يدفع رشوة هنا أو هناك فتُفتح له حينها جميع الأبواب المغلقة في زمن الإضرابات.
أما مؤسّسات الجباية فهي في أوج نشاطها، تبحث دائماً عمّا يمكن أن تمتصّه من دم المواطنين وعرقهم وشقاهم اليومي. هذا في وقت تُضاعف فيه أسعار خدماتها مع تراجع جودتها. فلا هي قادرة على تأمين الكهرباء إلا في حدّها الأدنى ولا على ضبط جشع أصحاب المولّدات الخاصة، كما لا تستطيع تأمين المياه إلى المنازل إلا في ما ندر… أما التعليم فمسألة لم تعد في اعتبارها بعد ضياع الأعوام الدراسية على طلاب المدارس الرسمية أعواما متتالية، حتى أنها تخلت عن الشهادة المتوسطة لـ2023 والحجّة أن إمكانات القوى الأمنية لا تسمح بتأمين سلامة عملية إجراء الامتحانات، رغم خطورة هذا الإجراء.
وعليه، يبدو حضور الدولة لمعالجة أزمات البلاد دائماً ما يكون متأخّراً. وغالباً تأتي حلول الدولة بأضرار أكثر من نفعها. كما لا يظهر أن في قاموسها أي إجراءاتٍ وقائية أو استباقية. تكتفي برمي الأعذار والهروب من كونها المسؤولة.
لا يمكن تصوّر الخروج من هذه الدوّامة في المدى القريب. والتلهي بالأزمات السياسية لا يحجب الضوء عن أزماتٍ أعمق بكثير، فمصير الخلافات السياسية الحل بتوافقاتٍ ستحدُث عاجلاً أم آجلاً، عندما تتهيأ الظروف الداخلية والخارجية لذلك، لتبقى الأزماتُ الأخرى الأكثر إلحاحاً وخطورةً بشقّيْها الاقتصادي والمجتمعي.