لبنان .. بلد العجائب
يمكن القول، بكثير من الأريحية، إنّ لبنان بلد العجائب، ليس فقط السياسية والأمنية، بل الاقتصادية أيضاً. منذ 2019 يواجه اللبنانيون أزماتٍ مكثفة، أخطرها الوضع الاقتصادي المزري وغير المسبوق. تدهورت الليرة اللبنانية حتى فقدت أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار ووصل إلى 34 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، قبل أن ينخفض في الأيام الأخيرة إلى نحو 20 ألفاً، بينما السعر الرسمي لا يزال عند 1500 ليرة. هرّب حيتان السياسة والمال ودائعهم بالدولار خارج لبنان، بينما احتجزت ودائع باقي الشعب في المصارف المحلية بحجّة فقدان العملة الأجنبية.
امتهنت مؤسسات الدولة أشنع أساليب التنكيل بالمواطنين. اختفت مادة البنزين من الأسواق فوقف المواطنون في الطوابير أسابيع يتقاتلون قبل أن يُرفع الدعم بشكل شبه نهائي عن المشتقات النفطية لتتوفر في الأسواق بأسعار جنونية، فيعادل ثمن الصفيحة الواحدة 20 لتراً أكثر من نصف الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة). أي أن راتب الموظف لم يعد كافياً حتى للذهاب إلى العمل. وكلما أرادت الأفران رفع ثمن ربطة الخبز (تخطت العشرة أضعاف) افتعلت أزمة طحين، فكان لها ما تريد من وزير الاقتصاد. أما مؤسسة الكهرباء أو ما يُعرف بـ"مغارة علي بابا"، وبعد عقود من السرقات وهدر الأموال والتراخي في تحقيق الجباية، فتنصلت من أي دور لها مع انهيار سعر العملة. في أفضل الأحوال، لا تنال أي منطقة لبنانية أكثر من ساعتي كهرباء في اليوم ليقع اللبنانيون تحت رحمة أصحاب المولدات وجشعهم، وباتت ساعات قليلة من التغذية الكهربائية وبأدنى معدل من الأمبيرات (لا تكفي سوى لإضاءة المنزل) تتطلّب ضعفي الحد الأدنى للأجور. أما الاستشفاء فأصبح للأغنياء فقط. يمكن بكل سهولة أن تموت طفلة بعمر الأربعة أشهر ونصف الشهر لأن المستشفى يرفض استكمال ما تحتاج إليه من عناية طبية قبل تأمين 400 دولار.
يبدو ذلك كله غير كافٍ، ففي جعبة الدولة مزيد من الأدوات الجهنمية لسرقة المواطنين ومضاعفة معاناتهم، وقتلهم لو تطلب الأمر ذلك. بإجراءات بسيطة، استطاع حاكم مصرف لبنان المركزي، رياض سلامة، قبل فترة وجيزة، تخفيض سعر صرف الدولار 10 آلاف ليرة (أي انخفض بنحو 30%) حتى أن سعره في السوق السوداء أصبح أقل من السعر الذي حدّده المصرف على منصة صيرفة الرسمية المعتمدة لشراء الدولار وبيعه وفق السعر الذي يحدّده. عندها فجأة أصبح المواطن اللبناني ممنوعا من قبض راتبه إلا بالدولار، طالما أن ذلك يضمن خسارته جزءا منه بفضل فارق السعر، ومع ذلك، يتم منع المواطنين من سحب ودائعهم بالدولار من المصارف.
تبدو جميع هذه الأساليب من صلب منهجية هذه الدولة القائمة على فكرة نهب المواطن حتى آخر رمق. والأسوأ لم يأت بعد. الموازنة التي تضع الحكومة اللمسات الأخيرة عليها قبل إرسالها للبرلمان لمناقشتها وإقرارها ستؤسس لمرحلة جديدة من إفقار المواطنين الذين ارتفعت نسبة الفقراء بينهم إلى نحو 85%. كل ما تسرب حتى الآن لا يفيد إلّا بأن الدولة ستحول حياة اللبنانيين إلى جحيم، من خلال مضاعفة ضريبة الدخل على الرواتب والأجور، في حين لن ترتفع الضريبة على الأرباح إلا بنسبة قليلة جداً، في تكريس لمعادلة حماية الأغنياء. وفي موازاة ذلك، يجري التمهيد لرفع الدولار الجمركي، ما يعني ارتفاعاً جنونياً في أسعار جميع السلع في بلد يسجّل التضخم فيه أرقاماً قياسية، ويعدّ بلد استيراد لا تصدير.
يحدث ذلك كله من دون أن يرفّ جفن لمن في السلطة وهم على أبواب انتخابات برلمانية في مايو/ أيار المقبل، ويحسبون قيمة الرشى التي سيدفعونها على شكل أموال نقدية و"بونات بنزين"، كما في كل استحقاق، لضمان توجّه أنصارهم إلى صناديق الاقتراع والتجديد لهم لاستكمال مخطّطات النهب والإفقار.