اللاجئون السوريون في لبنان مطرودون من جهنّمَ إلى أخرى
النقص والقحط تمكّنا من الحاجات الأساسية. افتقاد الماء والكهرباء صار وراء ظهرنا، وانتقلنا إلى مرحلة أرقى بطوابير محطات البنزين، مع تحوّل هذه المادة إلى فئة النادر. وكل التفاصيل الحياتية التي يمكن تصوّرها، من لُهاث وتوتر وإضاعة الأوقات والأعمار. وكانت المحنة الأخيرة أشد مضاضة، من صلب البقاء على قيد الحياة. افتقاد الخبز، كمرحلة من مراحل الانهيار، ربما ليست الأخيرة. فخرَجتْ إلى الصور طوابير الخبز، التي تختلف عن طوابير البنزين بأنها آخر معاقل العيش. وبأنها "بشرية". جمهرة من الناس، واقفون بالصفّ، وأحياناً من دون صفّ، يصبرون من أجل ربطة خبز، يدفعون أصلاً ثمنها من حلاوة روحهم. التدافع، التوتر، الصراخ .. والفوضى طبعاً.
تلازمهم حملة غليظة على السوريين: إنهم يسرقون خبزنا، يوزّعون أولادهم وزوجاتهم على الأفران. وبوستات على مدّ عينك والنظر، من نوع: "لازم، يا شباب وصبايا، كل ما نشوف سوري بالفرن نكْحَشو (نطرده) لبرّا ونقولوا غير مرغوب فيك وانقلع ورجاع على بلدك... أنا مبلّش (ابدأ) من بكرا". يليه هاشتاغ انتشر على عجل: #لا للسوري في لبنان. وشرائط "يوتيوب" عن أطفال سوريين يتعرّضون للضرب على أيدي شُبّان أمام أحد الأفران، ينتزعون ربطة رغيف من يده. وإعلان أفران بعينها عن امتناعها بيع الخبز للسوريين، وبلديات عن "ضبط الوجود السوري" على أراضيها. وانفلات ألسِنة المواطنين البسطاء، أن السوريين يسرقون الوظائف من يد اللبنانيين، يخلفون أولاداً كثيرين، يشحذون، يقتلون...
جمهرة من الناس، واقفون بالصفّ، وأحياناً من دون صفّ، يصبرون من أجل ربطة خبز، يدفعون أصلاً ثمنها من حلاوة روحهم
وصلت هذه الأهوال إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان، فأصدرت بياناً بأنها تشعر "بالقلق الشديد إزاء الممارسات التقييدية والتدابير التمييزية التي يتم تفعيلها على أساس الجنسية، ما يؤثر على اللاجئين كما على غيرهم من الفئات المهمشة". وبلغة الأمم المتحدة، التخفيفية دائماً، يمكنك أن تفهم أن التقارير التي وصلت إلى مفوّضيتها تحتوي على "ممارسات" أشدّ رعباً.
وما عدا "ردّ" وزير الخارجية الشاحب على هذا البيان، كان الصمت جليلاً على لسان "كبار المسؤولين". وماذا يقولون على كل حال، بعدما قبضوا أموالاً على ظهور اللاجئين، غير معروف حجمها، ولا عُرف كيف صُرِفت؟ وامتنعوا عن تنظيم وجودهم قانونياً وتركوهم لقمة سائغة في حلق المنظومة اللصوصية؟ ثم وضعوا بعد ذلك، أو في أثنائه، الأسُس المبدئية لهذه "الممارسات التمييزية"؟ فكان ميشال عون، رئيس الجمهورية، الحليف "الاستراتيجي" لحزب الله في حربه ضد الإمبريالية والصهيونية، إثر "انتخابه" بالقوة، رائد التنظير لهذه المبادئ بتكرارها، مثل نغْمة لم تفارقه طوال عهده الجهنّمي. يعيدها ويزيد أمام الوفود الأجنبية، في المناسبات والتصريحات الصحافية.
ميشال عون، الحليف "الاستراتيجي" لحزب الله، افتتح أوركسترا العداء للاجئين السوريين، بعدما أخرجهم حزب الله من ديارهم، دمّر ممتلكاتهم وشرّدهم
وقوام هذه اللازمة أن لبنان يستقبل مليوناً ونصف مليون لاجئ سوري، وهذا الاستقبال أضعفَ الاقتصاد اللبناني، والأسرة الدولية "تحتقر" نداء لبنان من أجل إرجاعهم إلى بلادهم. وهذا ما لا يمكن أن يقبله اللبنانيون، نظراً إلى حساسية التوازن الديموغرافي في لبنان، إلخ.
الوزراء بدورهم لم يقصِّروا. عشية الانتخابات النيابية، وزير عوني، هكتور حجار ووزير حزبلهي، مصطفى بيرم، يعقدان مؤتمراً صحافياً، عقب إحدى الجلسات الوزارية "لبحث موضوع اللاجئين السوريين"، اتفقا خلاله على "أن مسألة النزوح (السوري) لم تعد تُحتَمل، ولم تَعُد الدولة اللبنانية قادرةً على مقاربة هذا الملف، وضمانه بشكل كلي". مثلهما بعد الانتخابات، عصام شرف الدين، وزير المهجرين، يفخر بأنه صاحب "خطة لإعادة اللاجئين السوريين"، يجول بها مصدّقاً. وقسْ على ذلك. اللائحة لا تكاد تنتهي لوزراء ونواب، يوقّعون على "نظرية" رئيس العهد، ويفيضون.
والكلام المبْثوث في الفضاء ليس وحيداً. الألْسن تعلكه يومياً، مشيعةً جواً من الروايات، والوقائع المفبْركة، والشيْطنة المسعورة، والكراهية. وكلها أسلحةٌ مصوّبةٌ ضد السوريين، عموماً، ولكن القصد العملي أفقر السوريين، سكان الخيم البلاستيكية والفقر الأقصى، ومعهما كل مكوّنات الاستضعاف. وتظهر السلطة الحاكمة في هذه الواقعة وكأنها، بصمتها عن تلك الموجة "الشعبية" ضد اللاجئين السوريين بلغت مرماها. من أنها ليست هي المسؤولة عن أزمة الخبز. وبأنه بفضل "حنكتها" وحملتها المنتظمة، الرتيبة ضد اللاجئين السوريين، تملّصت من مسؤوليتها في أزمة الخبز، وما وراءها من أزمات.
قوام لازمة أن لبنان يستقبل مليوناً ونصف مليون لاجئ سوري، والأسرة الدولية "تحتقر" نداء لبنان من أجل إرجاعهم إلى بلادهم
وبهذا الصمت، يكون ذنب حزب الله بغزوه سورية تحت راية الإمام المرشد الأعلى، دفاعاً عن عرش بشار الأسد، قد سكتَ، أو أُسْقِطَ. ويكون ضمير حزب الله مرتاحاً إلى مشاركته في تهجيره السوريين من بلادهم، وبمسؤوليته عن مأساتهم، فنكون أمام غرابة: أن ميشال عون، الحليف "الاستراتيجي" لحزب الله، افتتح أوركسترا العداء للاجئين السوريين، بعدما أخرجهم حزب الله من ديارهم، دمّر ممتلكاتهم وشرّدهم. هذا الحليف الاستراتيجي الذي فشل في كل شيء إلا في احتفاظ حزب الله بسلاحه، يرمي رذاذه، يضلّل ويقطف ثماراً رخيصة، فيعتقد بذلك أنه امتلك القوة الكافية للتأكيد أن كل هذا الخراب ليس من مسؤوليته. وحزب "قائد"، فوق رأسه، الذي جنى على السوريين، يلتقط، هو وجمهوره هذه "اللحظة" لتأكيد أنهم فعلاً كانوا على حق، عندما أرسلوا مليشياتهم للتخلص من "قذارة" السوريين. والأغرب من ذلك أنهم يعرفون أكثر من غيرهم، أكثر من المنظمات الحقوقية الإنسانية، أن عودة أي سوري إلى سورية ليست بالضبط عودة إلى دياره، بل تعني أوتوماتيكياً تعرّضه للتوقيف الاعتباطي، و"التحقيق" وما أدراك، للتعذيب، على المنوال نفسه، للاغتصاب، للاختفاء، للتجنيد الإجباري في جيش بشار، لسرقة القليل الذي يحمله من لبنان. هذا من دون حساب منزله المدمّر أو المصادَر. وهذه وقائع صريحة تفيد بأن بشار الأسد ينكّل بأولئك السوريين العائدين إلى سورية. إذاً، اللاجئون السوريون في لبنان في حالة أشبه بالتوراتية. إنهم مطرودون من جهنَّمين: جهنّم بشار الأسد، وجهنّم حسن نصر الله.
ملاحظة: مع هاشتاغ # لا للسوري في لبنان، تحضُرني الآن صرخات المستوطنين اليهود الهاجمين على الفلسطينيين: "الموت للعرب". ومع أنهم يقصدون الفلسطيني الذي في وجههم، ولكنني كلما أسمع هذه الصرخة، أشعر بأنها موجّهة ضدي، طالما أنني عربية. على الوجه نفسه، السوري "المرتاح مادياً"، الساكن في الشقق اللبنانية الأنيقة، ماذا يشعر عندما يقرأ هشتاغ # لا للسوري في لبنان، الذي يقصد السوري المُعْدم؟ هل يكون معنياً به؟ أم يحمد ربه أنه ليس من اللاجئين، بحماية "راحته المادية"؟
أما الذين يسرحون على الحدود اللبنانية السورية نقّالين متنقّلين حامِلين مهرّبين مسلّحين مغطّين، الذين تتناولهم الحملة ضد اللاجئين بالسوء عندما تقول إنهم يغشّون، يخرجون من لبنان إلى سورية ويعودون إليه، فليبقوا هناك...! فهؤلاء ليسوا "السوريين"، بل مزيج سوري لبناني، يربط نظامي بشار الأسد وحزب الله وحلفائهما برابطة الأرباح والانتصارات بأثمانٍ يدفعها الشعبان.