لا تمت قبل أن تكون عبداً

18 يوليو 2021

(كمال بلاطة)

+ الخط -

هل يحسُد الأموات، بعضهم بعضاً؟ أغلب الظن أنّهم يفعلون، لا سيما إذا كان المحسود غسّان كنفاني، والحاسد "عجائز" منظمة التحرير الفلسطينية، الذين رحل بعضهم، وآخرون ينتظرون، بعدما "بدّلوا تبديلا".

عموماً، لم تكن مصادفةً أن تتزامن، هذا العام، ذكرى رحيل غسّان كنفاني، مع رحيل جديد لزعيم قديم، هو أحمد جبريل، في دمشق، فالرجلان من جيل واحد، وكانا من روافع الانطلاقة الأولى لمنظمة التحرير. الأول ناضل بالكلمة المبدعة، والثاني بالرصاصة المبدعة أيضاً، لكنّه سرعان ما حوّل اتجاهها إلى صدر شعبه اللاجئ في المخيمات، بأوامر عليا من وليّ نعمته بشار الأسد، فكان له فضل تدمير مخيم اليرموك عن آخره.

رفض غسّان أن يموت "قبل أن يكون ندّاً" وفق عبارته التي كان واضحاً أنّه يوجهها (بعد نفسه أولاً) إلى قادة المنظمة ثانياً، لأنّه بحكم رؤيته الروائية وحساسيته التي تستشرف القادم، كان يستشعر قابلية القادة للتفريط، وربما كان هذا الاستشعار سبباً إضافيّاً لاغتياله، إلى جانب أسباب أخرى لا يستطيع حصرها غير "الموساد" وزعماء إسرائيل فقط.

المهم، كان غسّان موضع حسد "عجائز" المنظمة، حتى الأموات منهم، لأنّهم كانوا يطمحون أن يحوز الواحد منهم حضوراً مثل حضوره القوي في الوجدان الفلسطيني، وينتابهم أسىً كلما رأوا ذكرى رحيلهم تمرّ مرور نملة ضائعة على صخرة صمّاء، بينما يتخذ الاحتفاء بذكرى غسّان شكل المهرجان. ففي كلّ ذكرى تُفرد له ملفات خاصة في صحف عربية كبرى، لإعادة دراسة أعماله، ومساحات لا تقل اتساعاً على منصات التواصل تستحضر مقولاته الخالدة.

وفي المقابل، يرحل عجائز المنظمة واحداً تلو الآخر بصمت، لا يستذكر فيه غير سيرتهم الأولى عندما حاولوا أن يكونوا أنداداً، فرحيل أحمد جبريل لم يستحضر معه غير بضع عملياتٍ فدائيةٍ قديمة، طمستها "عمليات" معاكسة، في زمنه المتأخر، موجّهة ضد شعبه في الخارج. أما شعارات الحرية والتحرير التي تشدّق بها، فماتت قبله ودفنها تحت أنقاض مخيم اليرموك، كما دفنتها إذاعته "صوت القدس" التي كانت تهلل لثورات الربيع في مصر وتونس، لكنّها سرعان ما راحت تعتبرها "مؤامرة" على الأمة، عندما وصلت هذه الثورات إلى سورية، فأصبحت عروش أولياء نعمتها مهدّدة. هي مفارقةٌ لا يصنعها غير عجائز المنظمة، فعلاً، أن يصبح قادة "الحرية" أعداء للحرية، ولتوق الشعوب التي كانوا يوجّهون نداءاتهم إليها سابقاً بالانتفاض ضدّ أنظمتها المستبدّة، إلى الخلاص من قرون التخلّف والاستبداد.

في المحصّلة، دفن عجائز منظمة التحرير منظمتهم وفلسفتها، وأصبح الهدف الوحيد لهم قمع الشعب الفلسطيني، في الداخل على يد محمود عباس، وفي الخارج على يد أحمد جبريل وأضرابه. أما شعار "مقاومة المحتل" فلم يعد له وجود في القاموس الثوري لدى الطرفين.

أغلب الظن أنّها الذكرى الأولى والأخيرة في ما يتصل بأحمد جبريل، فقد رحلت ذكراه بموته، ربما لأنّه رفض "أن يكون ندّاً" قبل موته، والأمر نفسه ينطبق على مرشّحين آخرين في دمشق ورام الله وغيرهما، ولا أسف إلّا على منظمةٍ كانت تعد بالكثير في زمنها الأول، زمن غسّان كنفاني، الذي إذا كنا لا نزال نحيي ذكراه "الأولى" على الرغم من مرور 49 عاماً على استشهاده، فإنّنا نحتفل، ولو على نحو مبطّن، بذكرى انطلاقة منظمة التحرير نفسها عندما كانت تعد في بداياتها أن "تكون ندّاً: هي الأخرى. أما اليوم، فلربما آن الأوان لأن تنشأ منظمة أخرى جديدة، عمادها "الثورة على الثورة" لأنّ تحرير الفلسطينيين من عجائزهم صار أولوية أولى قبل تحرير الأرض من المحتل، وهي عين الرسالة التي يوجّهها إلينا غسّان كنفاني في كلّ احتفال، ربما لأنّه يطمح أن نعيد الاعتبار إلى مقولتنا التي شابها الكثير من اللغط "من شبّ على شيء شاب عليه" بدليل أنّ عجائزنا يشيبون على خلاف ما شبّوا عليه، أو ربما لأنّهم أخطأوا في الإملاء، وهم يقرأون عبارة غسّان كنفاني: "لا تمت قبل أن تكون عبداً".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.