لا أحد في إسرائيل يريد زيلينسكي
منذ مراهقته، استحوذت على الفتى الذي صار رئيساً لأوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، عاطفتان مشبوبتان: محبته التمثيل وإعجابه بإسرائيل التي قدّمت له منحة دراسية رفضها والده عندما كان في السادسة عشرة من عمره. وبينما أوصله التمثيل إلى الرئاسة، خذلته إسرائيل، فلم تمدّ له يداً رغم إلحاحه ومناشداته.
قدّمت له الولايات المتحدة ودول كثيرة ما لا تستطيع إسرائيل تقديمه حتى لو أرادت ورغبت، لكنّ أنظاره ظلّت معلقة بها لا سواها، ولا تفسير لذلك سوى التعلّق العاطفي المرضي الذي جعله يسعى إلى التماهي معها، فنحن نتعرّض لما تعرّض له اليهود قبل 80 عاماً، ونحن مثلكم (إسرائيل) نواجه تهديداً كالذي تواجهونه. بل إنه ذهب إلى القول إنّ الحرب الروسية على بلاده تمثل مأساة لأوكرانيا ولليهود والعالم أجمع، رغم أنّ عدد اليهود في أوكرانيا لا يتجاوز 43 ألفاً إذا كانوا من أم يهودية، ونحو مائتي ألف أو أكثر قليلاً إذا كان أحد أجدادهم من جهة الأم أو الأب يهودياً، وهي نسبة لا تكاد تُذكر من أصل نحو 43 مليون مواطن أوكراني.
سبب ذلك رغبة زيلينسكي بالاندراج في التاريخ اليهودي، لا القومي الأوكراني، وأن يصبح واحداً من "أساطير" اليهود في مواجهة "النازية"، فروسيا التي يحرص على مقارنة حربها على بلاده بالمحرقة، يجب أن تُقاوَم بتحالف عالمي كذلك الذي هزم هتلر. وهو بهذا يريد أن يكون رأس الحربة في هذا التجمّع، مستنداً إلى التفوّق الأخلاقي المفترض للضحية الأوكرانية باعتبارها النسخة المعاصرة لضحايا المحرقة. أي مراجعاتٍ عجلى لتصريحاته الكثيرة جدّاً تؤكّد ذلك، فقبل أيام لم يجد حرجا في اعتبار المساعدات الأميركية لبلاده، وهي سخيّة بالمناسبة، ليست صدقة. ويبدو أن تماهيه مع دور اليهودي - رأس الحربة في مواجهة "النازية الجديدة" المفترضة أصبح يستفزّ الدول الكبرى التي يخاطبها زيلينسكي بفوقية وبلغة من يُملي ويفرض الشروط، وهو ما فعله مع إسرائيل نفسها حين خاطب الكنيست، وآنذاك نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن وزراء في حكومة لبيد أن خطاب زيلينسكي كان هجوماً صارخاً على تل أبيب، وأنه ذهب بعيداً بتشبيهه الحرب على بلاده بالمحرقة.
لم يقتصر هذا على الخطاب السياسي، بل على الأداء التمثيلي أيضا، فثمّة دور يحرص زيلينسكي على أدائه بشكلٍ متقن، فلم يظهر منذ الحرب إلا وهو يرتدي زياً عسكرياً وإنْ لم يكن كاملاً. ولعلها تجربته في التمثيل التي أمدّته بالأدوات الكاملة لإتقان هذا الدور، دور الضحية الرافض للاستسلام والمستعدّ للصمود بل وللنصر أيضاً في أية لحظة، فهو مرّة بين الجنود وأخرى يستقبل زعماء ومسؤولين غربيين بلباسه العسكري، مع حرصه الواضح على أن يتقدّمهم حتى وهم يمشون معه، كأنه يقيم في الدور وداخل الصورة. وقد وصفته الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، متهكمة بأنه استنفد موارده في الصورة إلى درجة مشاركة زوجته في جلسات تصوير لمجلة فوغ للأزياء خلال الحرب، فهو، كما قالت، أصبح يجري المقابلات على خلفية زوجته، وهناك الآن في قائمة الأطعمة طبقٌ يسمّى "زيلينسكي تحت أولينا".
ورغم أن الوصف متهكّم وذكوري بإفراط، إلّا أنّه لا يجانب الصواب كثيراً، فقد سجّل زيلينسكي أرقاماً قياسية في عدد الخطابات التي ألقاها. وكان يمكن اعتبار ذلك ضرورياً للتأكيد على عدالة قضيته ورغبته في حشد الأنصار لها، لولا أنه لا يفتقر للحلفاء أصلاً، وهم في رأي كثيرين من جعلوه وبلاده فخّاً لاصطياد بوتين وتوريطه في حرب استنزاف تجعل روسيا مجرّد قوة إقليمية لا عظمى.
أما أنّ القضية الأوكرانية عادلة فلا شك في ذلك، لكنّها حربٌ كان يمكن تجنبها لو تخلّى بوتين عن أوهامه الإمبراطورية، وزيلينسكي عن هوسه بالتمثيل وتقمّص دور الضحية - البطل الذي ينتصر على الأشرار في السينما ومخيلة المفتونين بها.