كييف مقابل القرم
بين يومي الإثنين والخميس الماضيين، تدرّجت مواقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بين الاعتراف بأن وضع قواته في أوكرانيا "صعب جداً" والتبجّح بتحويل الصواريخ الفرط صوتية إلى قوة نووية، وصولاً إلى القول إن "روسيا تريد إنهاء الحرب وكل الصراعات تنتهي بالدبلوماسية". وتخلّلت هذه المواقف زيارة إلى بيلاروسيا، هي الأولى له منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، للإيحاء بأنه قادرٌ على تصعيد استخدامها من "قوة إسناد" لجيشه إلى "قوة مشاركة في الحرب". وهو ما عبّر عنه صراحة مسؤولون عديدون في مينسك، وأولهم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو.
ومع أن بيلاروسيا سعت إلى "تطمين" العالم بأنها لن تشارك في الحرب الأوكرانية، ما لم يتم التعدّي عليها، إلا أنه يُمكن ملاحظة نقاط عدة في الجدول الأسبوعي المزدحم لبوتين. التلويح بدفع بيلاروسيا، وفقاً لشرارةٍ أمنيةٍ ما، تسمح لروسيا فتح جبهة العاصمة الأوكرانية كييف مجدّداً، لقربها من الحدود البيلاروسية. وبذلك، تمنع روسيا محاولات أوكرانيا استعادة شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها موسكو بالقوة في عام 2014. كييف مقابل القرم هي المعادلة التي تحكم الصراع الميداني في أوكرانيا في الفترة الحالية.
كان الحديث، في الصيف الماضي، أشبه بالهمس عن تحرير القرم من الروس، إذ لم تكن كييف قد استعادت أجزاءً واسعة من أرضها في الشرق والجنوب بعد. عُقد منتدى القرم في أغسطس/ آب الماضي، وتحدّث فيه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن "تحريرها في وقتٍ قريب". لم يكن أشدّ المتفائلين وقتها ليظنّ أنه بعد أربعة أشهر على المنتدى، باتت القوات الأوكرانية على بعد 84 كيلومتراً من مدينة ميليتوبول التي تسمح السيطرة عليها بشقّ الطريق نحو القرم. وأيضاً لم يكن أحدٌ ليتصوّر أنه يُمكن مهاجمة القواعد الروسية في شبه الجزيرة، وتفجير جسر القرم في مضيق كيرتش. لكنها أمورٌ حصلت، وباتت الحرب الروسية في أوكرانيا أمام منعطف حاسم ميدانياً.
وإذا اتخذ الروس قراراً بالعودة إلى كييف، من المؤكّد أنهم سيعتمدون تكتيكاتٍ مغايرة لما حصل في الربيع الماضي، حين وصلت أرتال الدبابات الروسية إلى مداخل العاصمة الأوكرانية، قبل أن تتحوّل إلى لقمة سائغة للمسيّرات ولتكتيك حرب العصابات التي اتّبعها الأوكرانيون. تراجع الروس لاحقاً. وفي القرم، لم تحدث أي عملية برّية باتجاهها بعد، إذ نجح الأوكرانيون، الشهر الماضي فقط، في استرداد مدينة خيرسون، الواقعة على مداخل شبه الجزيرة.
لكن الرسائل العلنية والضمنية للقيادات الأوكرانية أوحت بأن الجيش على مشارف بدء معركة القرم. تحدّث قائد الجيش الأوكراني، فاليري زالوجني، عن "معركة كبرى"، وعبّر زيلينسكي عن أمنيته في الجلوس على الشاطئ بعد التحرير، في مقابلة أخيرة مع المذيع الأميركي ديفيد ليترمان. والشاطئ المقصود هنا هو القرم، لا أوديسّا، حيث يمكن للرئيس الأوكراني زيارتها حالياً، لكونها خاضعة للسيطرة الأوكرانية، ففي العقل الجماعي السوفييتي، خصوصاً بشقّيه الروسي والأوكراني، تُشكّل القرم مقصداً صيفياً بين شتاءاتٍ باردة. وكلام زيلينسكي واضح في أن القرم ستتحوّل إلى هدف أوكراني.
ليس بالضرورة أن تندلع المعارك في الأسابيع المقبلة. الطقس عاملٌ مهم، والأراضي الضحلة ستشكّل مستنقعاً من الصعب الخروج منه. اللحظة المناسبة لم تحن بعد، لكن الجميع في موسكو وكييف يستعد لها. حتى أنه سرت أنباءٌ غير مؤكّدة عن مغادرة الروس والأوكرانيين الموالين لهم شبه الجزيرة الأوكرانية. يعلم بوتين وزيلينسكي أن قوة التفاوض تنبع من قوة الميدان، والسباق بين كييف والقرم سيسمح لأي منهما بتمتين موقفه. في المقابل، يبقى تفصيل مهم، ولو أنه ثانوي: باخموت، الواقعة في الشرق. هناك فشل الروس في السيطرة عليها، في ظلّ ثبات الجنود الأوكرانيين في موقفٍ دفاعي، مكرّسين نيتهم في تحضير الهجوم باتجاه القرم. سيبدّل السباق بين كييف والقرم مجرى حرب أوكرانيا، ومنظومة باتريوت شاهدةٌ على ذلك.