كيف يكون التحرّر من الأميركيين على يد طالبان؟

26 اغسطس 2021
+ الخط -

تنسحب الولايات المتحدة من أفغانستان، وبطريقةٍ معيبةٍ مخْزية. تصيب بذلك حلفاءها الغربيين. وتنطلق الألْسِنة والمخيّلات لتعود فتتكلم عن "انهيار الإمبراطورية الأميركية"، فتستعيد بذلك أفلاماً وتحليلات ونظريات صدرت منذ ستة وأربعين عاماً. وكلها تتكلّم عن الانهيار نفسه. وقتها رأت بأم عينها كيف انسحبت أميركا من فيتنام إثر الهجوم الناجح للفيتكونغ، المقاومِين وجودها، على فيتنام الجنوبية، حيث كانت قواتها متمركزةً تحمي الموالين لوجودها: تموّلهم، تدرّبهم، وتشارك في قصف فيتنام الثورية الشمالية وتدميرها.

والحال، أن الإمبريالية الأميركية هي فعلاً في بدايات نهايتها. ولكن متى تكون هذه النهاية؟ اسأل الإمبراطورية العثمانية التي أمضت قرناً بأكمله وهي تتراجع أمام القوى الأوروبية الصاعدة. تصدر "التنظيمات" ذات الإصلاحات الحديثة، المتشبِّهة بهذه القوى. وتسكت عن "تجاوزاتها"، عن اختراقاتها، تسايرها، تتغاضى عن تغلغلها في نسيج الدول التابعة لها. وكانت هذه القوى، مثل العصافير حيناً، تقضم القليل منها، أو مثل النسر غالباً، تنقضّ على مؤسساتها، تفرض نموذجها، تقتطع أجزاء من "أراضيها"، تضرب مؤسساتها بإحكام... حتى خبطتها القاضية، في الحرب العالمية الأولى، فسقطت الإمبراطورية العثمانية عن عمر يناهز الخمسة قرون، وكان عرشها يسمّى "الباب العالي".

هذه مقارنة مفيدة. تساعد على قياس المدى الذي بلغته الولايات المتحدة من هشاشة، ومن إخفاق، يهيئان الساحة لإمبرياليات ترشّح نفسها لأخذ مكانها. تماماً كما كانت تفعل الإمبرياليات الفرنسية والإنكليزية والروسية، وغيرها الأوروبية، بحق السلطنة العثمانية. وقياس الزمن ايضاً: مائة سنة، والعثماني "الرجل المريض" ينازع الموت.

ليس هناك بداية محدّدة لموت أميركا. ربما كانت البداية هذه منذ البداية. تشبه بذلك كل الإمبراطوريات، وكل الكائنات الحيّة. في البدء، كانت حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي. والآن حربها مختلفة الأوجه ضد إمبريالية مرشّحة لتولي مكانها، أي الصينية. تؤازرها إمبرياليات إقليمية أقل حجماً، ثأراً طبعاً من الأميركية التي هيمنت على العالم، والآيلة الآن للسقوط. وانسحاب أميركا من أفغانستان واحدةٌ من محطاتها. تشوبها تعقيداتٌ قد تكون أقوى من تلك التي عرفها العثمانيون. ولكن منبع هذه التعقيدات هو نفسها: تعدّد الأطراف العاملة على هذا السقوط، تداخل مصالحها، أو تناقضها. وأحيانا غرابتها، أو جِدّتها. من دون أن تضيّع الهدف الأساسي، أي إسقاط الإمبريالية الأميركية.

الممانعون في بلادنا رحّبوا أشدّ ترحيب بسقوط الإمبريالية الأميركية

الحدث الأفغاني، مثلاً، يطرح عليكَ السؤال عن معنى التحرّر الوطني من الاحتلال الأجنبي. في ذاكرة المواطن المعاصر، لم يحضر شيءٌ يماثله. لم نرَ يوما شعباً يعرّض نفسه للموت هرباً من محرّريه، وبهذا الكم من الهلع. ليس فقط الذين تكمّشوا بأجنحة الطائرة الأميركية ليهربوا من بطش المحرِّرين الطالبانيين. ولا بإطلاق هؤلاء النار على الفارّين المذعورين منهم. إنما أيضا هؤلاء الذين يختبئون في بيوتهم لا يريدون الخروج، خوفاً من "طالبان". عشرات الآلاف من "العملاء" أو "المسؤولين" السابقين من عهد الرئيس أشرف غني... بلا سند، بلا حماية من القبيلة، أو من المذهب الطائفي. مثل الأقلية الشيعية، من الهزاره، التي لن يسلم رأسها، فـ"طالبان" أشدّ المسلمين تعصّباّ، مذهبيا وغير مذهبي. هذا ونحن لا نتكلّم عن النساء، المختبئات بدورهن من التحرير. الأفغانيات يُعرفن، بحكم تجربتهن مع "طالبان"، بأنه، تحت حكمها، ممنوع عليهن الحياة خارج الأربعة حيطان.

بل أكثر من ذلك: هل رأيتَ في عمرك، بعد التحرير من الاحتلال الأجنبي، جمهرة من أصحاب البلد تتظاهر ضد "محرّريها"، وهي رافعة العلم الوطني؟ هذا ما حصل بعد يومين أو ثلاثة من "التحرير"، عندما تظاهر الآلاف في العاصمة، بمناسبة اليوم الوطني الأفغاني (19 أغسطس/ آب. عيد التحرير من البريطانيين)، رافعين العلم الوطني الأفغاني، ضد العلم الطالباني الأبيض، وصارخين "علَمُنا هويتنا" (هذه من نُذُر حرب أهلية قادمة).

الممانعون في بلادنا رحّبوا أشدّ ترحيب بسقوط الإمبريالية الأميركية. ومنذ اليوم الأول لانسحابها من أفغانستان، انهمرت علينا الآراء الممانعة بتحليلات ومواقف، معظمها من الصنف المحبَّب، الجيواستراتيجي، تشارك بحرارة هذا الاحتفال. وارتفعت معنويات الممانعين، اللبنانيين منهم خصوصا، الذين يرون أن نكبة لبنان هي "نتيجة مؤامرة أميركية"، فانبرى حسن نصرالله، يُشهر سيفه الإيراني، ويعلن عن "حرب ناقلات النفط"، بين لبنان الراكع، الجائع، الضائع، وأميركا - إسرائيل. استقواء واستعجال، يقوم بدوره على يقين تام بـ"نهاية أميركا"، من دون إلقاء، ولو نظرة سريعة، إلى نهاية شعوبنا ودولنا.

ويلتقي الممانعون، أصحاب العصبية المذهبية الشيعية، مع نظرائهم السنّة، في هذه البهجة وتلك العَجَلة. ضعْ جانباً الآن "داعش" الذي احتفل بالحدث بنوع من الخفر. واضحٌ منه أن ثمّة صراعاً خفياً بينه وبين "طالبان". ربما بسبب التنافس على القاعدة الشعبية المذهبية نفسها، أو لحسابات عشائرية، غير واضحة تماماً. أو لعدم اتضاح حجم وجود "داعش"، وحجم خلاياه النائمة الموزّعة في الصحارَى (ما قد يضغط على "طالبان" نحو المزيد من التشدّد).

في لجّة فعل الندامة الأميركي، وفعل ترسيخ سلطة "طالبان" بعد "التحرير" نسي الجميع من دفع عشرين سنة من عمره سجيناً ثمناً للمغامرة الأميركية في أفغانستان: سجناء غوانتنامو

لا تقلّ دلالة ردّة فعل هيئة تحرير الشام، السورية، المسيطرة على منطقة إدلب. و"الهيئة" منبثقة من "القاعدة". تواجه الروس وبشار ويا للمفارقة .. مليشيات إيران، السعيدة مثلها بفوز "طالبان". وهي تبدو، في بيانها التفصيلي، أنها تعدّ العدّة للاستقواء بطالبان الدولة، بعدما كان عدد لا بأس به من الطالبانيين يشاركون "الهيئة" في عملها العسكري والعقيدي.

في إدلب، إرتفعت معنويات "الهيئة" وحلفائها: تظاهرات شعبية، توزيع الحلويات ابتهاجاً بـ"نصر طالبان". زعيم "الهيئة"، أبو محمد الجولاني، أصدر بياناً، بارك فيه "طالبان"، التي "نالت الحرية من الاحتلال وعملائه". قال كلاماً كبيراً، من نوع "إن هذه التجارب الحيّة والأمثلة شاهدة على التمسّك بخيار المقاومة والجهاد"، فشدّد على ضرورة التفكير جدّياً في توسيع نفوذ تنظيمه إلى مواقع خارج إدلب. أي توسيع نطاق عملياته العسكري.

وطبعاً، الكلام اللبناني، والقائل إن السنّة اللبنانيين، بعدما تبهْدلوا على يد العهد والمليشيا المذهبية، وصاروا عزيز قوم ذلّ، قد ينظرون إلى انسحاب اميركا، وسيطرة "طالبان"، كعنصر عزوة. ونشر هذا احتمال فيه من الخبث ما يكفي من الجانبين، السنّي وغير السنّي. فما أجمل ذاك اللقاء بين "طالبان" وسنّة لبنان! إنه يطيل أمد احتضار لبنان... وخذْ ساعتها على تعميمات، كالتي صدرت عن ميشال عون بعيد كارثة التليل، انفجار صهريج النفط، إن المنكوبين من أهل تلك المنطقة من "المتشدّدين". افهم: ليس لسنّة لبنان غير الإسلام الداعشي أو الطالباني.

الأميركيون لا يصدّقون حتى الآن ماذا حصل. يملؤون الأثير بالكلام القاسي عن "طريقة الانسحاب من أفغانستان". وعارٌ أصاب أميركا، وهيبتها ومشاريعها وحلفاءها. ويتكلمون عن مسؤولية أميركا بالفشل. يعدّدون أسبابه: البيروقراطية الأميركية المرتاحة على وظيفتها، وغير المبالية بشيءٍ قدر مبالاتها بترفيع موظفيها، وكسبهم البونات والساعات الإضافية والإجازات. ثم الفساد الأميركي الساكت على الفساد الأفغاني الخيالي. ومن أهم نتائجه، أن الجيش الأفغاني الذي كلّف مليار دولار تبخّر في يومين أمام رَهْط "طالبان"، بسلاحهم الخفيف والمتوسط. فضلاً عن النقطة الأخيرة، المنطقية: إنه، نتيجة البيروقراطية والفساد في الإدارات الأميركية - الأفغانية، لم يكن هناك تنسيق بين مختلف دوائرها.

الحدث الأفغاني يطرح عليكَ السؤال عن معنى التحرّر الوطني من الاحتلال الأجنبي

وبعض الإعلام الأميركي، تعويضاً ربما عن تلك الصفعة الموجعة التي تلقَّتها أميركا، يريد أن يصدّق كل ما يصرح به قادة حركة طالبان. "نحن تغيرنا..."، يقولون. لن نمنع كذا أو كيت من تحريماتنا السابقة. ذبيح الله مجاهد (اسم غريب بالعربي)، الناطق باسم "طالبان"، يتعهد بعدم استخدام العنف، بمنح المرأة حقوقها كاملة "وفقاً للشريعة والقانون"، بحرية الإعلام، بعفوه عن كل من "كان ضد طالبان".

وفي لجّة فعل الندامة الأميركي، وفعل ترسيخ سلطة "طالبان" بعد "التحرير" نسي الجميع من دفع حتى الآن عشرين سنة من عمره سجيناً ثمناً للمغامرة الأميركية في أفغانستان: أعني سجناء غوانتنامو. ثمانية وثلاثين موقوفاً في سجون غوانتنامو العادية. وستة سجناء آخرين "خطرين"، من بينهم خالد الشيخ أحمد. وجميعهم ما زالوا يخضعون للتحقيق. انظر إلى سوء حظهم: قبل انسحابها من أفغانستان، كانت الإدارة الأميركية، تعدّ العدّة لإطلاق سراحهم. ولكن بعد الانسحاب وما تلاه، لم يعُد ممكناً حتى التكلم عن ذلك. هل تسأل عنهم "طالبان"؟

هكذا يُفتتح فصل جديد في أفغانستان، أولى طلائعه، "الاعتراف" الصيني بحكومة طالبان. ولا نعرف مآل هذا التودّد. ولكن قد يجد الطالبانيون أنفسهم بين "المصالح العليا للدولة" ورغبتهم بمؤازرة الأقلية الصينية المسلمة، الإيغور، التي تضطهدها السلطات الصينية، بصورة منهجية. أو تستعمل قضية الإيغور شكلا من الضغط على الصين، لإنجاز سكّة حديد من هنا، أو محطة كهرباء من هناك، بعد أن تكون استنفدت أموالها في محاربة أعداء الداخل.