كيف يراقب الأسد السوريين؟
لا مفاجأة في كشف وثائق "المركز السوري للعدالة والمساءلة" أن سفارات نظام الأسد كانت تتجسّس على السوريين في الخارج، فكل سوري سافر إلى الخارج لأي سبب كان يعلم أن سفارات النظام وقنصلياته ليست سوى فروع أمنية، وأن مهمة جمع المعلومات كانت المهمة الأساسية لهذه البعثات. والمهام الأخرى، التجارية والاقتصادية والخدمات القنصلية ليست سوى مكمّلات للمهمة الأمنية. ويعرف الدبلوماسيون السوريون أن الرجل الأول في السفارات السورية كان "الملحق الأمني"، وليس السفير كما هو مفترض.
ولكن اللافت في هذه الوثائق استمرار سفارات النظام العمل بهذه المهمة في ذروة أزمة النظام، فالمنطقي أن تتراجع أهمية المعارضين الخارجيين لدى النظام في ظل ثورةٍ عارمة شارك فيها مئات آلاف الرجال، فالأجهزة الأمنية السورية لم يسبق لها أن واجهت مثل هذا الحدث، وليس لديها الكادر المدرّب الكافي للتعامل معه، ولا تملك الأدوات المناسبة للسيطرة على الأحداث، فكيف، في ظل هذه المعطيات، لديها القدرة على تولي أعمال إضافية، ليست على قدرٍ عال من الأهمية، بالمقارنة مع المخاطر المتأتية من معارضة داخلية باتت طلائعها على مسافة قصيرة من قصر الرئاسة ومقار الأجهزة الأمنية نفسها.
أجهزة المخابرات السورية لا تعتمد الوسائل الحديثة في العمل الأمني
ومعلومٌ أن أجهزة الأمن السورية اعتقلت، في السنتين الأوليين للثورة، مئات آلاف الأشخاص، ووضعت أسماء أكثر من مليون شخص على قوائم المطلوبين، بل في يونيو/ حزيران 2011 ، ولم يكن قد مضى على انطلاق الثورة أكثر من ثلاثة أشهر، أصدرت أجهزة الأمن قوائم بمئات آلاف المطلوبين الذين شاركوا، بطريقةٍ أو أخرى، في الثورة، وقد كشف ذلك عن حجم تغلغل الأجهزة الأمنية في المجتمع السوري، وتبين أنها تملك شبكات كبيرة في المدن والأرياف، استطاعت من خلالها جمع هذا الكم الهائل من المعلومات عن المعارضين والثوار.
وفي المعلومات التي تسرّبت لاحقاً، تبين أن إيران زوّدت أجهزة الأسد الأمنية بكاميرات حديثة لتصوير المظاهرات، وقد ذكر متظاهرون كثيرون تم اعتقالهم في الأشهر الأولى كيف أن المحققين أروهم صورهم في المظاهرات، لكن تلك لم تكن الآلية الوحيدة للاعتقال، فالجزء الأكبر من الاعتقالات كان عشوائياً، وأحيانا بدون شبهة، حينما كانت قوات الأسد تمشّط القرى في الأرياف والشوارع والمناطق في المدن، بل إن بعض مخبري النظام وشبيحته قد تم اعتقالهم، وبعضهم قتل تحت التعذيب خطأ.
في الوقت الذي تتعطّل فيه كل مظاهر الحياة في سورية، تزدهر الوظيفة الأمنية، ويصبح لها جيوش إلكترونية وأذرع خارجية
وليس سرّاً أن أجهزة المخابرات السورية لا تعتمد الوسائل الحديثة في العمل الأمني، والقائم على تحليل المعلومات والوصول إلى المعلومات الحقيقية، والجزء الأكبر من عملها يقوم على كتابة تقارير يقوم بها عناصر من الأجهزة، في الغالب من ذوي التعليم المتدني والتدريب غير المناسب، أو من أشخاص متنوعين، يعملون في مؤسسات النظام، وفي الأسواق، ودائماً يتم انتزاع الاعترافات بواسطة التعذيب الذي لا يوجد له مثيل لدى أي جهاز أمني معاصر، كما يجري تزوير هذه الاعترافات وإجبار المعتقلين على التوقيع عليها، أو حتى لا تضطر الأجهزة الأمنية للحصول على توقيع المعتقل الذي سيقتل في الغالب.
هذه الطاقة الكبيرة على العمل كانت مفهومة في السنتين الأوليين للثورة. أما بعد ذلك، ومنذ بداية 2013 إلى 2017، فستنحسر سيطرة نظام الأسد لتصل إلى أقل من 20% من مساحة سورية، وسيتم تدمير شبكاته الأمنية في الجزء الأكبر من سورية، وستصبح حماية رأس النظام وبقية أفراد العصابة الموجودين في دمشق، أهم أولويات أجهزة الأمن السورية. على الرغم من ذلك، ظلت الآلة الأمنية تعمل بكثافة وكفاءة غير مفهومتين، فقد استطاعت أجهزة الأمن متابعة السوريين في دول اللجوء، وزرعت جواسيس ومخبرين، كما حرّكت علنا أدواتها في ألمانيا وفرنسا وهولندا والسويد، وحتى تركيا، للتظاهر تأييداً للنظام، بل تجرّأ بعضهم على إرسال تهديدات للاجئين بمعاقبة ذويهم وعائلاتهم في سورية، كما أسّس في هذه الدول منظمات ونوادي ومنابر باسم اللاجئين لمتابعة تحرّكاتهم ونشاطاتهم.
"جمهورية" الأسد ليست سوى جهاز أمني كبير، وأن جميع المؤسسات الأخرى ليست سوى توابع لهذه الأجهزة
واللافت في فرنسا، مثلاً، وهي إحدى دول اللجوء السوري، وجود أعداد كبيرة من الأطباء وأساتذة الجامعات وتجار ومشتغلين في تحويل العملات، أغلبهم درس في فرنسا قبل الثورة، إذ كانت الجامعات الفرنسية تقدم مقاعد دراسية "منحا" بالإتفاق مع النظام السوري الذي كان يخصّصها للموثوقين والمقرّبين منه، ومن غير المعلوم ما اذا كان هؤلاء قد عادوا إلى فرنسا بأمر من النظام لتأدية مهمة معينة، ام انهم هربوا من أجواء الحرب السورية، لكن المؤكد أنهم يؤيدون النظام إلى أبعد الحدود.
لم يعد مستغرباً، أن نظام الأسد، وفي ذروة عجزه عن تقديم أي حلّ لأزمة السوريين الاقتصادية، والتي وصلت إلى حد المجاعة الفعلية، منشغل جداً، عبر ما يسمّى "الجيش الإلكتروني" بنشر تطبيقات للهواتف المحمولة لمراقبة اتصالات السوريين العاديين، والتجسّس على مكالماتهم وأسرارهم الشخصية في هذه الظروف العصيبة. وهذا يثبت أن "جمهورية" الأسد ليست سوى جهاز أمني كبير، وأن جميع المؤسسات الأخرى ليست سوى توابع لهذه الأجهزة، وأن المهمة الأولى لهذه الجمهورية أمنية بامتياز، لذا في الوقت الذي تتعطّل فيه كل مظاهر الحياة في سورية، تزدهر الوظيفة الأمنية، ويصبح لها جيوش إلكترونية وأذرع خارجية.