كيف وقعت الإمارات في فم الوحش الصهيوني؟
لم يكن الاتفاق بين إسرائيل والإمارات على الدخول في حلفٍ تهيمن عليه الأولى مفاجئاً تماماً، فكل المؤشرات كانت تدلّ على مفاوضات جارية في هذا الاتجاه، ولكن الاستعجال بالإعلان عن ترسيم التطبيع بين الطرفين كان ضرورياً لرفع أسهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فمنذ نشر سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، مقالاً في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، في 12 يونيو/ حزيران الماضي، بشأن قرار إسرائيل ضمّها أراضي فلسطينية في الضفة الغربية، اتضح أن صاحب القرار الفعلي في دولة الإمارات، ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، قد ابتلع طعم معادلة تأجيل قرار الضم مقابل التطبيع، ففي مقاله، كتب العتيبة أن هذا الضم سوف يبطئ عملية التطبيع بين الدول العربية وكيان الاحتلال. ووصف إسرائيل بأنها فرصة للمنطقة للتطور والازدهار، ونفى عنها صفة العدو، أو حتى المحتل، وفقاً للغة القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
لم يكن مقال السفير الإماراتي في الصحيفة الإسرائيلية بداية القصة، لكنه مهّد لتسريع عمليةٍ هندستها في واشنطن شخصياتٌ صهيونيةٌ نافذة وفريق ترامب، لاستثمار قرار تأجيل عملية الضم لتسريع التطبيع العلني، والانتقال إلى حلف إسرائيلي - إماراتي، ضمن رؤية استراتيجية أمنية أميركية - إسرائيلية، تجعل من الدولة الصهيونية لا جزءاً طبيعياً من المنطقة فحسب، بل "حامياً" لها أيضاً. وكيف لا يكون المعني الفعلي لـ"اتفاق أبراهام" (التسمية التي أطلقت على الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي) كذلك؟ فالعلاقات الإسرائيلية - الإماراتية أخذت منحى العلنية، بما فيها الاقتراب بين الطرفين بشكل ملحوظ منذ عام 2010 على الأقل، تحت شعار التنسيق لمواجهة الخطر الإيراني، فتتالت اللقاءات تحت رعاية مؤسسات أميركية يمينية وصهيونية، أهمها معهد الدفاع عن الديمقراطيات والمؤسسة اليهودية للأمن الوطني الأميركي، والتي اتضح، أخيراً، أنها أضحت الملهمة الأولى لسفير الإمارات في واشنطن، تكاد ترسم له وتخطط، فقد أصبح يستخدم مصطلحاتها، مثل جيل أو جيلين من دبلوماسيين ومثقفين عرب ممن يعملون ويقيمون في العاصمة الأميركية، بحجة الابتعاد عن "ماضي الكراهية".
تضمّن مقال السفير العتيبة في "يديعوت أحرونوت" مقولاتٍ يجرى تداولها في مراكز صهيونية وقريبة من إدارة ترامب
وكانت اللقاءات الإماراتية الإسرائيلية تحت رعاية هذه المؤسسات، ومثيلات لها، تتم أحياناً بعيدة عن معرفة المؤسسة الرسمية الأميركية أو التنسيق معها، إلى درجة أن الأجهزة الأمنية هي التي كشفت عن اجتماع إماراتي إسرائيلي عُقِد في قبرص، وأبلغت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بحدوثه، وفقاً لتقرير نشرته مجلة نيويوركر الأميركية بعد فوز ترامب بالرئاسة، والذي شجّع فريقه القريب من المؤسسات اليمينية المذكورة سالفاً هذه اللقاءات، بل وظّفها لإدخال الإمارات في الدفع بتنفيذ ما تُسمّى صفقة القرن، أي الخطة الأميركية لإنهاء الحقوق الفلسطينية، خصوصاً وأن علاقات قوية تجمع بين مستشار الرئيس وصهره جاريد كوشنير ومحمد بن زايد، فالدور المأمول في الإمارات، كما هو الحال مع السعودية، أن يصعّد حكام البلدين الضغط السياسي والمالي على الدول العربية بقبول الخطة الأميركية من دون شرط أو قيد، إضافة إلى إعلانهما التطبيع الكلي مع الدول الصهيونية.
لا يمكن تبرئة أي دولة عربية، خصوصاً وليس حصراً اللتين وقعتا اتفاقيات سلام مع إسرائيل
وقد كانت إدارة ترامب، في مرحلة سابقة، تعتمد على السعودية، فدعمت وصول محمد بن سلمان إلى موقع ولاية العهد، لكن الأخير اصطدم بأن مسالة التطبيع مع إسرائيل وقبول الخطة الأميركية وضم القدس المحتلة مسألة أكبر منه، فللسعودية دور لا يستطيع أن يتجاوزه، بحكم رعايتها المقدسات والشعائر الإسلامية في مكة والمدينة، ولا يستطيع العبث رسمياً بمكانة القدس عند المسلمين والعرب. ولذا أصبح دور محمد بن زايد، ولو مرحلياً، بالنسبة لواشنطن في الصدارة، فازداد اهتمام الشخصيات الصهيونية النافذة، ومنها المليونير حاييم صبان، بلعب دور وصل إلى حدّ رعاية المحادثات والجهود للوصول إلى "اتفاق أبراهام". وقد لعب هذا الرجل في بناء معادلة "تأجيل الضم مقابل التطبيع" دوراً رئيساً في توظيفها لدفع الإمارات إلى توقيع الاتفاق وإعلانه. وقد جاءت المعادلة (أو الفكرة) من المخاوف التي عبّر عنها كثيرون من مؤيدي إسرائيل، من صهاينة وليبراليين، بأن تعجيل تنفيذ ضم أراضٍ في الضفة الغربية المحتلة يؤذي عملية التطبيع الضرورية لنجاح صفقة القرن، فكان التخوّف من وقف التطبيع أو تعليقه أحد أسباب معارضة أصوات صهيونية عملية الضم قبل جر الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات لقبول اقتطاع إسرائيل أراضيهم في مقابل كينونة مفتتة وممسوخة، تسمّى دولة فلسطينية.
الدور المأمول أميركيا في الإمارات، كما الحال مع السعودية، أن يصعّد حكامهما الضغط السياسي والمالي على الدول العربية بقبول الخطة الأميركية من دون شرط
الأصوات الصهيونية والأميركية التي عارضت تنفيذ قرار الضم، وسعت إلى تأجيله، أرادت إعطاء التطبيع فرصةً، حتى يكتمل، وبالتالي تكتمل عملية عزل الفلسطينيين، لإجبارهم على قبول هزيمتهم والاستسلام لمشيئة إسرائيل تنفيذها آخر مراحل المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي في بلادهم. (نشرت الكاتبة مقالاً في "العربي الجديد" في الخصوص، "لماذا تعارض أصوات صهيونية الضم في الضفة الغربية"، 10/5/2020)، ولكن فكرة أخرى نتجت عن جدل احتدم بين مؤيدي إسرائيل في واشنطن، في مايو/ أيار ويونيو/ حزيران الماضيين، توظيف تأجيل قرار الضم الذي وافق عليه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لأسباب داخلية، إضافة إلى طلبٍ من الرئيس ترامب، لتسريع عملية التطبيع العلني العربي الإسرائيلي، وكانت الإمارات قد قطعت أشواطاً في المحادثات والخطوات التطبيعية، بل والمساندة لإسرائيل تحت عناوين مختلفة، منها مواجهة جائحة كورونا، فبعثت مساعدة طبية إلى الفلسطينيين من دون تنسيق معهم، وكانت مؤشراً غير مسبوق، يقترب من شرعنة السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وهو ما لم تفعله حتى الدول التي ترتبط بمعاهدات سلام مع إسرائيل. ولذلك لم يكن مقال السفير يوسف العتيبة مجرّد فكرة داهمته ليلاً أو نهاراً، فقد تضمّن مقولاتٍ يجرى تداولها في مراكز صهيونية وقريبة من إدارة ترامب، من قبيل إن ضم إسرائيل إليها أراضي من الضفة الغربية سيعرقل عملية التطبيع، وتأجيله قد يسرّع التطبيع. وهذا ما حدث، لكن ليس نتيجة طبيعية، بل مكافأة قدّمها صانع القرار في أبوظبي إلى إسرائيل، وقد يكون متفقاً عليها مسبقاً، فقد كشف دينيس روس، وهو المتشدد في مساندته إسرائيل، في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز أن المليونير حاييم صابان هو من أشرف على مقال العتيبة، ونشره في "يديعوت أحرونوت".
لا يمكن تجاوز حقيقة أن ما نراه من تداعيات اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية
لا يمكن تبرئة أي دولة عربية، خصوصاً وليس حصراً اللتين وقعتا اتفاقيات سلام مع إسرائيل، فدول عربية أخرى منخرطة في التواطؤ مع إسرائيل من دون معاهدات، ولا يمكن تجاوز حقيقة أن ما نراه هو أيضاً من تداعيات اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولكن اتفاق أبوظبي وحكومة الاحتلال جاء في سياق تنفيذ علني لتصفية القضية الفلسطينية، ما يجعل أصحاب القرار في الإمارات في مصاف العدو، ليس فقط للشعب الفلسطيني، بل أيضاً لدولة الإمارات نفسها.
قال محمد بن زايد، في تغريدته أخيراً، إن توقيع الاتفاق جاء في مقابل إلغاء الضم، ليصفعه نتنياهو بأن الضم ما زال على الطاولة. لا أعرف إذا كان صادقاً في وهمه أم لا، لكنه وضع الإمارات والخليج بين فكي الوحش، فهل يدري؟