كيف مرَّ رمضان؟
تقول فكرة رائجة في الثقافة الإسلامية السائدة إنّ رمضان شهرٌ لتربية النفس وتهذيبها. هذا جيد طبعاً، لكن ما الذي يمنع أن تكون الحياة كلها مدرسةً لتهذيب الأنفس وتربيتها؟
في رمضان هذا العام، كما في كلّ رمضان، طغى التبشير الديني ذو الطبيعة المادية، عوضاً عن الروحية، على يوميات الشهر الفضيل. يمكن قراءة ذلك مثلاً في البرامج الدينية التي تعرضها التلفزيونات ومقاطع يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، كذلك حال الخطب الوعظية، والدعوات المختلفة إلى "الإحسان" من خلال التبرّع لفقراء، أو مرضى، أو محتاجين. وتقوم الطبيعة المادية في كل ما تقدّم، على المقايضة مع الله: يُحسن المرء، فيغفر الله له. يتعبّد المرء بصلاته وصيامه، فيعتق الله رقبته من النار... لكن، أين هو تدريب الأنفس وتهذيبها في هذا الفهم والسلوك الرمضاني الرائج؟
لعل أساس السلوك القائم على عبادة الله خوفاً لا حباً، تلك المفاهيم المنسوبة إلى الدين التي تعدّ الحياة الدنيا دار اختبار وابتلاء، لا دار تدريب وتهذيب. إنها المفاهيم ذاتها التي تجعل غير مفهوم لكلّ إنسان إن كان مسيّراً أم مخيّراً: إذ ما دام يخضع للاختبار والابتلاء فهو من دون شك مخيّر، لكن ذلك يتعارض مع ما تقرّره النصوص الدينية من أنّ كل شيء بمقدار، وهو معلومٌ عند الله ومكتوبٌ على كل مولود. وإذا كان ذلك هو الحال فالإنسان مسيّر إذاً، لا خيار لديه، فعلامَ يخاف أو يطمع بما هو مقرّر سلفاً له أو عليه؟
لا يكون قد فهم الإسلام من يصلّي ويصوم ويعتمر ثم لا يسلم الناس من كذبه، أو دسائسه، أو نميمته، كما هو معلوم
لم يقل لنا أحد إنّ الدنيا، بما هي دار تهذيب وتربية، إنّما تجعل المرء مسيّراً في كلّ شيء من مسارات حياته التي يحرّكها القدر ويقرّرها القضاء، كي تربّيه وتهذّبه، لكنّه مخيّر في ردود فعله على مجريات تلك المسارات: أيشكُر أم يكفر؟ أيصبر أم يجزع؟ وكأنّ حياة الإنسان على الأرض جزء من تلك الثنائية التي يجري عليها الكون كله منذ نشأته قبل نحو 14 مليار سنة، المتمثلة بالعشوائية المفضية إلى الاتزان، فالأقدار تمضي لأنّ الله بالغٌ أمره، بما يحقق اتزان حياة البشر من تلك العشوائية التي تُحدثها ردود فعلهم على ما يعطونه أو يمنعونه.
المهم هنا، بالنسبة لمجتمعاتنا العربية والمسلمة، أنّ تلك العلاقة المادّية مع الله، القائمة على المقايضة، إما استجلاباً لمغفرته أو درءاً لغضبه، تفسّر هذا الفهم المادي السائد للإسلام بين سواد المسلمين، والمنعكس على شكل العلاقات في مجتمعاتهم، والقائم على تبادل المصالح، سواء من خلال الطائفية أو الفئوية، أو من خلال الحزبية بما فيها التي ترفع شعار "الإسلامية"، هذا بدلاً من أن تقوم العلاقات بينهم على أساس التراحم والتعاطف والتعاضد، لا رغبةً في مصلحة أو فائدة، وإنّما لمجرّد كونهم مسلمين.
تقول أدبيات الإسلام إنه جاء ليُخرج الناس من ظلمات الحياة المادية إلى نور الحياة الروحية القائمة على المحبّة: محبّة الله، ومحبّة الناس، تلك التي لا تبتغي مصلحة ولا تلتمسها، فتدفع أصحابها إلى أن ينبذوا الكراهية، والعنف، والغدر، وخيانة الأمانة، وغيرها من ممارساتٍ يفعلها الناس لأجل أطماعهم المادّية الدنيوية. ولهذا، لا يكون قد فهم الإسلام من يصلّي ويصوم ويعتمر ثم لا يسلم الناس من كذبه، أو دسائسه، أو نميمته، كما هو معلوم؛ إذ ما يصنع الله بصلاتنا وصيامنا، ثم ما يفعل بتعذيبنا؟ فتلك الشعائر هي أمرٌ بينه وبين ربه: يتقبّله الله أو لا يتقبّله، أما غيبته ونميمته، أو صدقُه وأمانته، فهي الأمر الذي بينه وبين الناس، الذي يخرّب المجتمع، أو ينشر فيه الصلاح.
لن يبلغ المرء محبّة الله، ما لم يكن قلبه سليماً في علاقته مع الناس، حتى لو صام الدهر، ولم يكتفِ برمضان
هكذا، فإنّ سلامة العلاقة بالناس، أي الامتناع عن الكذب، والنميمة، وخيانة الأمانة، ورمي القمامة في الشارع، أو تخريب الممتلكات العامة، أو إزعاج الجيران، أو الاحتيال المالي، هي الطريق إلى علاقةٍ سليمة مع الله، تمرّ من سلامة العلاقة مع الناس. ثمّة ضرورتان، إذاً، لسلامة إسلام المرء: أن تقام العلاقة مع الله على أساس المحبة، لا الطمع أو الخوف، وأن تقام العلاقة مع الناس على أساس المحبة، لا تبادل المصالح؛ أي أنّ سلامة إسلام المرء رهن بسلامة القلب وصفائه. ولهذا بالضبط، تمرّ الطريق إلى محبة الله من محبّة الناس؛ فلن يبلغ المرء محبّة الله، ما لم يكن قلبه سليماً في علاقته مع الناس، حتى لو صام الدهر، ولم يكتفِ برمضان. وربما يكمن في مثل ذلك الفرق بين الإسلام والإيمان: فالأول محكومٌ بظاهر الأفعال من شعائر وممارسات، أما الثاني فمحكومٌ بباطنها ونيّة صاحبها.
لكنّ مجتمعاتنا تقصر اليوم عن الوصول إلى جوهر الإيمان، لأنّها تمارس دينها على أساس المقايضة مع الله ومع الناس، لا على أساس المحبّة. ولن يفلح أمر المقايضة مع الله أبداً، لأنّ لا حاجة له تعالى بنا وبشعائرنا و"طقوسنا"، ويتجلّى ذلك مثلاً في إخفاق فكرة "استجلاب نصر الله" في زماننا، فثمّة قادة وسياسيون اتخذوا الإسلام شعاراً، لكنّهم لم ينالوا نصر الله، وذلك طبيعيٌّ ومنطقي، لأنّ الله يتولّى المؤمنين الذين يحبّهم ويحبونه، لا الذين يعبدونه ليظفروا بنصره.
الإنسان مخيّر في المحبّة إذاً، حتى وإن كان مسيّراً في أحداث القدر؛ أي أنّه مخيّر في أن تقوم ردود أفعاله، تجاه القدر الذي لا يملك تقريره، على أساس المحبّة أو على عكسها، ما يعني أنّ تلك المحبّة هي الأساس الحقيقي للتقوى والإحسان والصبر والرضا، وبغيرها تكون تلك الممارسات رياءً لا سمح الله، حتى لو اتُخذت شعائر العبادات شعاراً، بما فيها صيام رمضان.