في ذكرى ثورة 1919 ... كيف كُتب تاريخ الاحتجاج وثورة الأطراف في مصر؟
"هو الخراب بعينه، سل سواد الناس يقولوا لك بالإجماع إن أيامهم هذه قطعة من سِنَىَ يوسف" ... عزيز خانكي (1873-1956) المحامي المصري، ذو الأصول الشامية، وهو يصف الأحوال الاجتماعية للمصريين في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
تحلّ هذه الأيام ذكرى اشتعال ثورة عام 1919 في مصر. ويكاد يتّفق عديدون من مؤرّخيها على أنّ عاملين أساسيين منحاها الانتشار الواسع، في طول البلاد وعرضها، حيث المواجهة الشاملة العنيفة، وذلك بجانب الأزمة السياسية المتجسّدة في مواجهة الحركة الوطنية المصرية للاحتلال الإنكليزي، ويتجسّدان في:
أولًا، أزمة الغذاء في أثناء الحرب العالمية الأولى؛ وما ارتبط بها من بطالة ومجاعة، خصوصاً في الأطراف والريف، الأمر الذي أسهم في ارتفاع معدلات الوفيات؛ فقد تُوفي 2٪ من المصريين بسبب الجوع وسوء التغذية والمرض.
ثانيًا، حالةً من السخط الواسع؛ فالفلاحون في الأطراف في قرى الدلتا والصعيد أُجبروا على تحمّل أعباء الحرب العالمية الأولى، فقد اقتيد أبناؤهم وأقاربهم إلى معسكرات العمل الإجباري في ميادين القتال في الحرب، علاوة على معاناتهم من الأزمة الغذائية الطاحنة خلال فترتها، وتصاعدت مخاوفهم بأنهم "سيكونون أشد جوعاً في العام 1919" على حدّ قول المؤرخ الأميركي إليس غولدبرغ (توفي في 2019)؛ حيث كانت ثورة الجياع فى الريف تحتاج تلك الفرصة التي تحرّكت فيها المدينة أو أفندية الحركة الوطنية، وعندها "أدرك الفلاحون أنّ السيطرة على السلع والحاصلات التي ينتجونها كانت أكثر أهميةً من أي دخلٍ نقديٍ يتحصلون عليه من بيعها، ولكن تلك السيطرة الفلاحية كانت تعني صراعاً مع ملّاك الأراضي والدولة في وقت واحد"، فالمحرّك الأساسي، هنا، هو الجوع أو الخوف من التعرّض له مرّة أخرى، فكان لا بدّ لهم من إسماع أصواتهم كلّ القوى السياسية المسيطرة على المجتمع: السلطة العسكرية (الاحتلال)، والحكومة المصرية، وكبار الملّاك.
رؤية تفصل بين جماهير الريف وجماهير المدينة
ووفقاً لذلك، يمكن القول إنّ ثمّة رؤية ثنائية تسيطر على عملية كتابة تاريخ ثورة 1919، قوامها الفصل بين جماهير الريف وجماهير المدينة، فلكل طرفٍ منهم أسبابه الخاصة كي يثور. ويبدو أنّ ذلك التقسيم: الحراك السياسي الوطني في المدينة (الأفندية الثوار)، والحراك المطلبي في القرية (الفلاحون الجياع) كان حاضراً في الخطاب السياسي الاستعماري أيضاً، فاللورد ملنر، عندما حضر إلى مصر أواخر عام 1919، كتب في تقريره ما يشير بوضوح إلى هذا الخطاب؛ حيث يقول "في المدن والبنادر يسهل تهييج الغوغاء بتلقينهم ألفاظاً مستحبّة رنانة تتّحذ شعاراً سياسياً فيصيحون بها وهم لا يفهمون معناها. أما الفلاحون فجمهورهم لا يبالي بالسياسة بطبيعته". وكان المراقب العام البريطاني في مصر، اللورد كرومر، قد كرّسَ تلك الرؤية، عندما أفصح عن تحليله شخصية الفلاح المصري الذي كان في نظره "عاطفياً وجاهلاً وساذجاً". وأضاف كرومر، في رؤيته إلى الحالة السياسية للفلاح المصري: الفلاحون "هم مجرّد أصفار على الصعيد السياسي. الفلاحون فاترو الشعور، شديدو الجهل، وعاجزون تماماً عن امتلاك زمام المبادأة، ولذلك هم يعجزون عن التعبير عن آرائهم تعبيراً سياسياً مسموعاً". وكان مسؤولو الإدارة الاستعمارية يثقون جيّداً في الدرس الاستشراقي الذي تعلموه في صفوفهم، حيث كانت نظرية الاستبداد الشرقي حاضرة في رؤيتهم إلى المجتمع المصري، وكانت رؤيتهم تلك نموذجاً للقراءة الرومانسية الاستعمارية لتاريخ المجتمع المصري، فاللورد كرومر، مثلاً، كان يتصوّر أن الاحتلال الإنكليزي باعتباره منقذاً لمصر من تاريخها الاستبدادي، وفساد رجال الحكومة والإدارة وتعطّل الحرّيات. أو كما قال "المصريون على مدار ستين قرناً يعانون من سوء الحكم والقمع على أيدي مختلف الحكام بدءًا من الفراعنة إلى الباشوات".
أثبتت أحداث ثورة 1919 أن ثمّة تبلوراً أوضح وأعمق للهوية المصرية الجامعة
وهنا يأتي دور "المصلح الإنكليزي" لتأهيل المصريين وتعليمهم حكّاماً ومحكومين. ومن ثم، إنكار دور الفلاح أو الأطراف في ثورة 19، واعتبارها عملاً مطلبياً لا أفق أو غاية سياسية من ورائها هو من آثار ذلك الخطاب الاستعماري. وهو أمرٌ تُنكره حقائق الاجتماع والتاريخ؛ فقد أثبتت أحداث الثورة أن ثمّة تبلوراً أوضح وأعمق للهوية المصرية الجامعة، حيث تمكّن مواطنو مصر من تمتين المعنى المشترك الجامع لهويتهم بشكل مميّز وفريد، والعلاقة بالسلطة والآخر من مواطني البلد، ومشاركة الناس العاديين في الشأن العام، واعتبار أن المصالح والمطالب العامة لا تخصّ المصريين من رجال السياسة والحكم، الصحافة أو المقيمين في القاهرة وحدهم، بل المصريين في كلّ مدينة وقرية ونجع. ومن ثم، كانت النظرة المتعجّلة إلى الحراك الثوري 1919 تقوم على أنه حدثٌ سياسيٌّ في المدينة خلف قادة حزب الوفد؛ وحدثٌ مطلبيٌّ في القرية طلباً للطعام، وخوفاً من الجوع ونقص الغذاء؛ فإن وثائق وكتاباتٍ عديدة قد ظهرت من أجل تصحيح تلك الرؤية، والعمل من أجل إبراز الصراع الاجتماعي والطبقي الذي عبّرت عنه ثورة 1919، باعتبار أن ذلك الصراع ممارسة سياسية، أو كما قال فكري أباظة في روايته "الضاحك الباكي" إنها "الثورة ضد الإنكليز، والثورة ضد الثروة". وقد كان للتباين في الأداء والمدّ الثوري بين أقاليم مصر ومدنها دليلاً على خصوصية الظروف البنائية والاجتماعية في كلّ إقليم، واتّساع حجم المظالم والأزمات الاجتماعية والاقتصادية في كلّ إقليمٍ شارك بفاعلية في الثورة، وإن كانت جميعُها قد نجحت في أن تبرُز باعتبارها ثورة واحدة تضافر فيها المصريون؛ ليس فقط لإنتاج مجتمع جديد يحفظ كرامتهم، بل أيضاً مجتمع مُوحِّد لهويتهم الوطنية.
... "الأجانب شوّهوا تاريخنا وكتبوه وفق أهوائهم" ... تلك كلمات محمد صبري السوربوني أحد أهم كُتّاب التاريخ القومي المصري؛ حيث كان، بكلماته تلك ينتقد الكتابة الكولونيالية للتاريخ المصري الحديث؛ والتي اعتمدت على فرضية "ركود الشرق"، ولكن إلى حين قدوم المستعمر بأدوات الحداثة، فالمركزية والاستبداد الشرقي، وهما من المفاهيم الأساسية، في هذا النموذج، قد عملا على إيجاد تاريخ نمطي ودائري لمصر الحديثة، حيث تبدو كأنّها مجتمع ذو تاريخ واحد متكرّر، حتى سجّل الغزاة اكتشافهم له؛ في حين أن الكتابة الوطنية للتاريخ القومي، والتي ظهرت في مرحلة لاحقة تؤكّد على قِدم الدولة والمجتمع وأصالتهما. وتنزعج، في أحيانٍ كثيرة، من حضور سردية التنوع داخل أطراف الوطن، وترى أن مصر وحدة متجانسة ذات تاريخ مشترك منذ عهد الملك مينا نارمر موحّد القُطرين. وفي كل الحالات، يجري تهميش الأطراف وتعمّد التعامل معها أنها غير مرئية (invisibility) كما يقول بذلك الباحث الأميركي، بيتر غران، أو اعتبارها تابعة للمركز وليس لديها تاريخ أو سردية مختلفة عن المركز أو العاصمة (القاهرة)، حيث نزع هوية الأطراف وخصوصيتها، بل، وأحياناً، اعتبار أن خصوصيتها تمثل تهديداً للتاريخ الواحد؛ أو السردية القومية الجامعة.
ويميّز بيتر غران بين عدّة نماذج أكاديمية كانت هي المسؤولة عن اختفاء التأريخ لأبرز مدن الأطراف في مصر، أسيوط عاصمة الصعيد، ومركز الثقل الإداري والاقتصادي والسياسي بها. ويؤكّد أنّ تجاهل التاريخ المحلي للأطراف، ليس فقط بسبب الدور الاستعماري أو مؤرّخي الاستعمار؛ فقد لعب باحثو الأنكلو – أميركان الدور الأبرز في عملية إخفاء تاريخ الأطراف. ويفسر غران قيامهم بذلك الدور بالرجوع إلى الخلفية الثقافية والحضارية لهؤلاء الباحثين، فالحضارة الغربية هي نتاج عملية التخلّص من الأضعف، حيث يقارب غران بين سِفر الخروج (Book of Exodus) وما جرى في أثناء بناء الحضارة الغربية؛ والتي صارت ثقافتها تقوم على مركزية الذكر الأبيض، حيث تتخلّص جماعة الذكر الأبيض من بعض الناس، وإن كانوا طيّبين، إلا أنهم كانوا في الجانب الخاطئ، حتى أن عملية إبادتهم ليست ذنباً تُلام عليه جماعة الذكر الأبيض، فهم كانوا، في النهاية، ينفذون إرادة الرب. ويذكر غران أنّ جماعة الباحثين الغربيين ينظرون إلى مصر من ذلك المنظار الانتقائي والاستبعادي، والذي يتجلّى في لحظة تجاهل المجتمعات المحلية المصرية. ويبدو في تلك اللحظة تأثّر غران بنظرية ما بعد الاستعمار في وصم المنتج الأكاديمي الأنكلو- أميركي، والتي تمثلت عند سبيفاك في الطرق الاستعمارية، والذي اعتبرته بوصفه "مكوِّنَاً للفلسفة الغربية وتَصوُّرِها لنظام العالَم".
مؤرّخون مصريون
وكان مؤرّخون مصريون عديدون قد نجحوا، في الآونة الأخيرة، في إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي للأطراف؛ خصوصاً في صعيد مصر، وقامت رؤيتهم على تحدّي منهجية الاستبداد الشرقي، مثال ذلك زينب أبوالمجد التي قدّمت قراءة لتاريخ الصعيد في ضوء مفهوم الاستعمار الداخلي أو الاستيطاني (Settler Colonialism) ، حيث أوضحت أن التأريخ الإمبريالي لمصر قد ركّز على كتابة تاريخ الشمال (القاهرة والدلتا) دوناً عن الجنوب، الذي جرى تجاهله، وغاب صوت الجنوب بشكل تام. وترفض زينب أبوالمجد نظرية الاستبداد الشرقي، وتعتقد في أهمية نظرية ما بعد الاستعمار في فهم التاريخ المصري الحديث، وخصوصاً دور الأطراف في جنوب مصر فيه، ولكنها توسّع من تلك النظرية، لا لتشمل مرحلة الاستعمار والغزو الأجنبي، فحسب، ولكن أيضاً الاستعمار الداخلي؛ حيث الصفوة السياسية القاهرية بنزعتها وخطابها القومي المُوحِد والمنكر تاريخ الأطراف ومكانتها وخصوصيّته، الأمر الذي كرّسَ الأطراف باعتبارها تابعاً (subaltern)، وكان أنجح محاولات إخضاع الأطراف وأبرزها تلك التي جرت على يد محمّد علي باشا، حيث كان الصعيد هو المستعمرة الأولى First Colony بحسب رؤية زينب أبوالمجد، والتي "تم إدماجها قسراً في نظام الشمال وهيمنته؛ في الوقت الذي تم فيها تطريف أو تهميش الصعيد الذي تمت السيطرة عليه"، أي أنها عملية مزدوجة تشمل الإدماج والتهميش معاً.
ثمّة اتجاه إلى إخفاء دور الأطراف، خصوصاً الصعيد، من الظهور عبر صفحات التاريخ الاجتماعي
يرفض غران ذلك التفسير لتغييب حضور الأطراف، الصعيد خصوصاً، في عملية كتابة التاريخ المصري؛ حيث يعتقد أن نموذج الطريق الإيطالي لأنطونيو غرامشي عن الجنوب الإيطالي هو الأنسب للحالة المصرية؛ حيث إن نُخب صعيد مصر قد أُدمجت في بناء القوة الخاص بنُخبة القاهرة، بل إنها تكاملت مع البُنى البيروقراطية والعسكرية والسياسية والثقافية الخاصة بنُخب الشمال، فالقوى الجنوبية المنخرطة طبقية ومتمايزة عن المجتمع المحلي بالأساس، من خلال علاقتها بجهاز الدولة، وليس بنمط إنتاجي محدّد، حيث تعمّدت عملية التحويل الطبقي اصطناع طبقة وسطى تتقدّمها صفوة إدارية وسياسية (العُمد والمشايخ والأعيان)، وهو التفسير الذي يختلف عن نموذج الاستعمار الاستيطاني؛ فإدارة الجنوب ليست سيطرة استيطانية، بل هي هيمنة ذات أبعاد أيديولوجية، ومادّية؛ حتى أن مثقفي الجنوب الذين يُختارون على أنهم من رموز الثقافة الوطنية كان قد جرى اختيارُهم بناء على انتمائهم بالأساس إلى تلك المناطق المُستبعَدة، والذين كانت كتاباتُهم تتّجه إلى تكريس ثقافة الوطن والمصير الواحد، وكان "غرامشي لا يقصد أن هؤلاء المثقفين كانوا عظماء بالفعل بقدر ما كان ذلك طبيعة واتجاه وخطّة التنظيم الثقافي السائد". وضرب غران مثالاً بنموذج طه حسين باعتباره خير شاهد على صدق النموذج الإيطالي في فهم التكامل السياسي والثقافي للأطراف الجنوبية مع الشمال. ووفقاً لذلك، عملية الإدماج السياسي والثقافي للجنوب لا تمارسها الدولة المركزية وحدها، بل تُمَارس عبر قوى اجتماعية وثقافية محلية أيضاً، حيث نفقد في تلك اللحظة الصورة الحقيقية للجنوب، وننظر إليه باعتباره جزءاً من ثقافة الشمال ونظامه.
إخفاء دور الصعيد
ومن الواضح أن ثمّة اتجاها إلى إخفاء دور الأطراف، خصوصاً الصعيد، من الظهور عبر صفحات التاريخ الاجتماعي، وهو ما يحاول باحثون عديدون فهمه وتفسيره، ولكن ليس وفقاً للظروف والأبنية الداخلية، بل عبر الدور الاستعماري الأجنبي، وليس بسبب قوى أو متغيرات داخلية، ووفقاً لــMartina Ricker "النظام البريطاني الاستعماري حوّل سكّان شمال مصر (القاهرة والدلتا) إلى مواطنين عبر تصنيع الشمال وتحضّره؛ بينما الجنوب تم النظر إليه باعتبار سكّانه مجرّد قوى عمل رخيصة. ومن هنا، جرى تجاهل الجنوب وتاريخه، وهو الأمر الذي اتفق معه رينهارد شولتس عندما أكد على مقولة "الاستعمار الاقتصادي للريف المصري"، حيث ثمّة متغيرٌ خارجيٌّ فاعلٌ، إلا أنه رفض أن يكون حراك فلاحي الأطراف يجسّد عملاً سياسياً يوازي حراك الأفندية في العاصمة والمدن الكبرى، فهو يرى أن الدعوة القومية إلى "الاستقلال والحرية والعدالة لم يكن لها المعنى ذاته لدى الفلاحين، وبينما اتّخذ الأفندية الدولة الاستعمارية هدفاً لجهودهم، اتّخذ الفلاحون الاستعمار الشامل لحياتهم الاقتصادية هدفاً لغضبهم".
وبالرغم من أن تلك الرؤية تنفي النضج السياسي عن فلّاحي الأطراف، إلا أنها تمتاز برؤيتها النقدية للسردية القومية ونظرية التابع التي ترى الأطراف تابعاً ومناصراً لخططها؛ فتلك الرؤية تدعم مسألة صوت الفاعلين الذي يُراد تجاهله، ولكنها، في الوقت نفسه، تنفي فكرة الوعي السياسي عن حراك الأطراف؛ والذي تجسّد في أَجَلّ صوره عام 1919.
التأريخ الإمبريالي لمصر قد ركّز على كتابة تاريخ الشمال (القاهرة والدلتا) دوناً عن الجنوب، الذي جرى تجاهله
واستناداً إلى بعض الماركسيين المصريين، فإن التباين المكاني في عملية الرسملة، سواء من حيث العلاقات الاجتماعية للإنتاج أو نمط الملكية، يلعب دوراً كبيراً في إخفاء الأقاليم أو بروزها، فأحمد صادق سعد يعتمد على فكرة التباين في تحلل أنماط الإنتاج داخل التكوين الاجتماعي المصري، "حيث ظلّ المشترك القروي قائماً كوحدة اجتماعية واقتصادية وضرائبية حتى بدأ يتحلّل في الدلتا في ظل المماليك الجراكسة، واختفى من مصر العليا عملياً في حوالي عام 1850"، فقد تأخّر تحلّل النمط الآسيوي للإنتاج في أطراف الصعيد عنه في الوجه البحري، وهو ما عمل على تكريس طابعٍ معين للعلاقات الاجتماعية في صعيد مصر، ففي ظلّ "تدنّي القوى الإنتاجية ومستوى المعيشة يلجأ الفلاحون إلى الاحتماء بالعلاقات العشائرية والإقليمية"، فالروح الجماعية ظلّت حاكمة في الحياة الاجتماعية والسياسية في الأطراف، ومن ثم كانت المقاومة جمعية، وليست اختياراً فردياً وفقاً لنظرية الاختيار العقلاني، فمهما كانت تكلفة الأفعال الجمعية، فإن الجميع سيتحمّلها إذعاناً لروح الجماعة وضميرها، وهو ما لم تفهمه البحوث الإمبريقية الأنكلو – أميركية؛ فالفاعل ليس حركة احتجاجية محدّدة، بل هو التركيب الاجتماعي التضامني، ومن ثم ظهرت الأطراف كنقاط مظلمة وغير مرئية في صفحات التاريخ الاجتماعي، فليس هناك فاعلٌ واضحٌ ومحدّد، كما أن مفهوم الشعب لا يظهر في الأطراف كما يظهر في الحضر، ومن ثم تجاهل باحثو التاريخ الاجتماعي الأنكلو- أميركان الأطراف في صعيد ودلتا مصر.
وكان مدخل الاقتصاد الأخلاقي (Moral Economy) قد سيطر على النظرة الغربية بشكل عام، فقد شكّل القاسم المشترك في غالبية المداخل التي أَرّخت للأطراف في المجتمع المصري، ويفترض ذلك المدخل "أن الغضب تجاه الدولة يتصاعد عندما لا تُلبىَ المطالب والحقوق والمزايا التي دأب الناس في الحصول عليها، ومن ثَم تظهرُ لدى المحتجّين مواقفَ أكثرَ راديكاليةً حتى تعود الحكومة إلى تلبية تلك المطالب والحقوق"، الأمر الذي يفيد بأن هذا المدخل يتجاهل قدرة الناس على تسييس مواقفهم وسلوكياتهم وفقاً لمطامح سياسية بحتة، فهي، بهذا المعنى، مجتمعات ليست مؤهلة للديمقراطية، ومن ثم فإن القوى الاجتماعية في الأطراف متأخّرة اجتماعياً وسياسياً؛ بل وتفتقد الوعي الذي تمتلكه نظيرتُها في المراكز الرأسمالية، وبذلك تكون المشاركة السياسية المرتبطة بهذا الوعي مرتكزةً على مطالب محدودة وفئوية وتفتقد للاستراتيجية السياسية الواضحة.
ويمكن النظر إلى حضور مدخل الاقتصاد الأخلاقي في تفسير عديد من الهبّات الشعبية والثورية، وعلى سبيل المثال، كانت صحيفة مانشستر غارديان البريطانية قد نشرت تقريرا عقب أحداث ثورة 1919 برّرت فيه ثورة المصريين بقولها "هناك خطأ ارتُكب في تموين الجيش البريطاني، فعلى مدى سنتين أو ثلاث سنوات، كان تموين مائة ألف رجل يتم على نفقة مصر، وهذا ما أدّى إلى أزمة اقتصادية منعت الرقابة من الحديث عنها".
ثورة 1919 مدينة بالفضل للأطراف، فهي لم تصل إلى عنفوانها وجذوتها المتّقدة إلا عندما اشتعلت في قرى الدلتا، وصعيد مصر على وجه الخصوص
وكان الكاتب اليساري لطفي الخولي قد عمل على تبرير انتفاضة الخبز 1977 وتفسيرها باعتبار أنها تمثل "رد فعل دفاعيا للانتهاكات الصارخة لقيم الاقتصاد الأخلاقي المتفق عليها، ذلك الخرق الذي ارتكبه منتفعو الانفتاح". وهو الأمر الذي تعمّق لدى الباحثين الأنكلو – أميركان، حيث توصلت الباحثة الأميركية Marsha Pripstein إلى أن مدخل الاقتصاد الأخلاقي هو أفضل سبيل لتفسير هذه العلاقة حيث "يقبل العمّال ما يقدّم لهم من امتيازات وحقوق، بينما يغضبون بشدة عندما تُقلص هذه الحقوق، في وقتٍ لا تتقلص فيه المسؤوليات الملقاة على عاتقهم". حيث كانت دولة جمال عبد الناصر في نظر كثيرين نموذجاً للاقتصاد الأخلاقي الناضج، حيث يصل باحثون عديدون إلى تفسير الاحتجاجات العمّالية التي حدثت بعد تحلّل دولة عبد الناصر على أنها "لم تكن في أي يوم تبحث عن مطالباتٍ جديدة، ولكنها تقوم بهدف استعادة حقوق ضاعت".
وقد ساهمت المرحلة الناصرية ذاتها فى إقناع باحثين كثيرين بصحة هذه العلاقة بين الدولة والعمّال، بسبب إجهاض الدولة فى هذه المرحلة نمو أيِّ حركة مستقلّة للعمّال وقمعه. وكان هذا واضحاً، فلم تمتلك الطبقة العاملة في الستينيات "أي قدر من القوة، وكان تمثيل العمّال الرمزي في مجالس الإدارات الإنتاجية والصناعية ومشاركتهم في الأرباح أو النقابات مقيّداً بشكل كبير بإرادة النظام السياسي وتوجهاته"، حيث نجحت "السياسات الإدماجية للنظام الناصري في استيعاب العمّال ذوي النشاط السياسي ونقاباتهم داخل هيكل الدولة، وتعرّض العمال الذين رفضوا هذه الصيغة للقمع الشديد". وثمّة عبارة شهيرة للرئيس عبد الناصر تعبّر عن هذه السياسات "العمّال لا يطلبون نحن نعطيهم"، لكن الفرصة السياسية التي تكوّنت بفعل متغيّرات عديدة مَكّنت العمّال من كسر هذه العلاقة، ليصبح العمّال أكثر إزعاجاً للدولة من أي طبقة اجتماعية أخرى.
في ضَوْء ذلك، يمكن فهم أحداث 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977، فقد كانت محاولة من جانب العمّال (أساساً) لفتح نافذة سياسية يتمكّنون وغيرهم من القوى الشعبية، من خلالها، من احتلال أوضاع جديدة في بناء القوة، وضمان أن لا تكون التحوّلات الاقتصادية الجديدة في غير صالحهم.
البحث عن فرصة سياسية، وليس العودة إلى الاقتصاد الأخلاقي، كان شاغل القوى الاجتماعية منذ 1919، بل إن الدعوة إلى تثوير الأطراف كانت أساس التأريخ لعملية الدعوة إلى التغيير في مصر، فبشكل مبكر أدرك الأفغاني ومحمد عبده أهمية الأطراف، بل كانت لديهما الأمل الوحيد في الخلاص من الاحتلال الإنكليزي، وهما يُنبهان أهل الأطراف في الدلتا والفيوم إلى أهمية استغلال انشغال الإنكليز بالقتال ضد الحركة المهدية: "هل ينظر المصريون نظرة متأمّل إلى القوة الإنكليزية؛ ليعلموا أن ليس في طاقة بريطانيا، لو أفرغت جهدها، أن تبعث إلى مصر والسودان أزيد من عشرين ألف جندي! ألا يعلمون أنه إذا اشتغل الجند الإنكليز بالسودان، وحصلت حركة خفيفة في الشرقية والبحيرة والفيوم لارتبك الإنكليز وخارت عزائمهم والتجأوا لترك البلاد لأهلها؟!
كانت الأطراف رمّانة الميزان في معادلة الانتفاضات الثورية على مدار قرنٍ ونيف، رغم ما تعانيه من استبعاد دولتي وأكاديمي
وثورة 1919 ذاتها مدينة بالفضل للأطراف، فهي لم تصل إلى عنفوانها وجذوتها المتّقدة إلا عندما اشتعلت في قرى الدلتا، وصعيد مصر على وجه الخصوص، فقد تكوّنت إدارات للحكم الذاتي في أقصى الأطراف؛ في زِفتىَ بالدلتا، وأسيوط وأسوان بالوجه القبلي، وكان ثمة ميلادٌ وحضورٌ لنشطاء محليين ومنظمين للاحتجاجات بدون الحاجة إلى تنظيم مسبق، حيث "الأفندية في مدن الأقاليم قادوا الاحتجاجات بالتعاون مع الأعيان والفلاحين الممتلئين سخطاً وإحساساَ بالقهر". وشهد كبار ضبّاط الاحتلال بعنف الثورة في صعيد مصر، فتوماس راسل أحد قادة شرطة الاحتلال كان شاهداً على مقاومة الصعيد التي أخرجت صعيد مصر من تحت سيطرة قوات الاحتلال، وجيشه؛ خصوصاً عندما ذكر: ساهم "تأخّر إصلاح خطوط الاتصالات في عدم تقدير الحجم الحقيقي لعنف الثورة، فقد تم تدمير السكة الحديد في الوجه القبلي في عدة أماكن، حتى صارت المواصلات مستحيلةً عدّة شهور".
وقد تجدّد الأمر نفسه عندما قالت الأطراف كلمتها في حراك الربيع العربي، تحديداً من مدينة سيدي بوزيد، عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، بعد مصادرة عربته، ولم تتأجّج الثورة المصرية 25 يناير/ كانون الثاني 2011، إلا عندما اشتعل وقودها في مدينة السويس، وكذا الأمر مع الثورة السورية بداية من مدينة درعا وأطفالها؛ عندما رسموا على جدران مدرستهم عباراتٍ ثوريةً معارضة، وما لبث الأمر أن انتقل إلى المدن السورية الأخرى.
وما زالت محافظات قطاع غزّة تمثل صوتاً لمقاومة الاستبعاد وإسكات الأطراف، فهي تحضُر اليوم باعتبارها مركزا ونموذجاً للمقاومة والتضحية في مواجهة العالم الغربي الذي يبرّر عمليات الإبادة والتخلص من الضعفاء، فالأطراف كانت هي رمّانة الميزان في معادلة الانتفاضات الثورية على مدار قرنٍ ونيف، رغم ما تعانيه من استبعاد دولتي وأكاديمي، إلا أنها تعود فتثبت نفسها حاضرة في أي لحظةٍ من لحظات صناعة التاريخ.