كيف تواجه القاهرة تحدّيات الحرب
دفعت الحرب على قطاع غزّة نحو مليون و700 ألف من إجمالي سكانه البالغ مليونين و400 ألف إلى النزوح الداخلي، وتتمثل خطورة هذا النزوح، بأنه لا يبدو مؤقتا، مع توقّعات بإطالة أمد الحرب، بخلاف جولات العدوان السابقة، والتي كانت أقصر زمنيا، كما أن النزوح، ضمن سيناريوهات طرحتها إسرائيل وداعموها، وهو ضمن أدوات الخطة لإحداث تغيير ديمغرافي وسياسي، عبر حرب إبادة تتضمن دفع أكبر كتلةٍ من السكان نحو التهجير القسري. وبذلك، نحن أمام وقائع النزوح الأكبر تاريخيا، وهو قريب الشبه بنزوح عامي 1948 و1967 ومتصل بسياسة توسعية قائمة على إبعاد السكان عن أرضيهم، ونفي وجودهم، وتفكيك كل الأشكال التنظيمية وشل كل المؤسّسات (ليس المستهدف حركة حماس وحسب) وصولا إلى مزيد من انهاك الشعب الفلسطيني.
والعدوان على غزّة، ضمن مسار يضمن هيمنة الاحتلال الأمنية والعسكرية، عبر حدود أمنية جديدة، كما لا تنفصل عن إقامة الاستيطان وتشجيعه، وتطويق المناطق الفلسطينية بالحواجز ونظم الفصل والمراقبة والتحكم. ويرتبط إنفاذ سياسة التهجير بقدرة الاحتلال على شلّ قدرات المقاومة، وإبعاد حركة حماس عن الحكم عبر قيادة بديلة، وكذلك مرهون بتطورات المواجهات الميدانية وتفاعلات الداخل الفلسطيني، ومواقف دولتي الجوار، مصر والأردن ضمن مواقف إقليمية ودولية. وهذه العوامل في حالة سيرورة، لكن ذلك لا يلغي الوضع الإنساني الكارثي حاليا، حيث لا تكفي جهود الإغاثة ولا إمكانات مراكز اللاجئين التي لم تسلم من القصف، في استيعاب النازحين والمرشّح عددهم للزيادة مع امتداد القصف جنوبا، كما لا تزال تسكن شمال غزّة آلاف الأسر، وفق قول جهاز الإحصاء الفلسطيني.
ورغم صمود بطولي، واستضافة الجنوب النازحين، وتشارك كسرة الخبز إن وجدت، في تضامن اجتماعي ظاهر، إلا أن هناك أوضاعا إنسانية مأساوية، بما فيها نقص الإمدادات الغذائية وخدمات تمثل حدّا أدنى للعيش، هذا بجانب تكدّس مراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والتي تحذّر، مع جهات أخرى، من مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة، والتي رآها جنرال إسرائيلي تسهّل مهمة العدوان.
لن يستطيع الاحتلال أن يؤمن وجودا مباشرا في القطاع فترة طويلة، لفداحة التكلفة، والتي تضاف إلى خسائره من المواجهة مع المقاومة
ومع هذا التهديد، ضمن حرب إبادة شاملة، تعلن القاهرة رفض مخطّطات التهجير، لأسباب ترتبط بما يفرضه أي وضع مستجدّ، من أدوار وأعباء، ومخاطر أمنية، وأيضا، تصفية للقضية الفلسطينية، وتلتقي القاهرة في موقفها مع القوى الفلسطينية، نظرا إلى ارتباط مخطّط التهجير برغبة إسرائيل في إيجاد بديل مفروض عسكري، لإحكام السيطرة الأمنية على القطاع كما يقول بنيامين نتنياهو، أو نظام أمني دون تحمّل مسؤوليات عن الحياة اليومية، كما يقول وزير الحرب غالانت، وموقفهما يرتبط برؤية أميركية بالأساس، أظهرها الرئيس جو بايدن، في مقال في "الواشنطن بوست"، عن بناء تحالف ضد "حماس" بالتعاون مع الشركاء، مكرّرا أكاذيبه السابقة عن "جرائم حماس"، وإن كان بايدن يرفض شكليا التهجير، إلا أن ذلك يتناقض مع أهداف يعلنها، وأيضا وقائع قائمة حول النزوح، وهي جزء من مخطط الاحتلال.
وخطر التهجير يجعل الأردن ومصر وبحكم علاقتهما بالولايات المتحدة في موضع ضغوط، ومطالبات بلعب أدوار يبحثون الإفلات منها، عبر إعاقة مخطّطات الاحتلال، وهو ما يفسّر تزايد التقارب مع "حماس"، وتنسيق قوى مع الأردن وقطر، بجانب تغيّرات في الخطاب نسبيا، ظهر في مناسبات بينها، مؤتمر "تحيا مصر وفلسطين" والاجتماع البرلماني، لمناقشة النواب الحكومة عن إجراءاتها. وكان واضحا أن الاجتماع (النقاش) جرى الإعداد له في البرلمان المصري، لتوجيه رسائل إلى الخارج، عن رفض شعبي العدوان، والتطبيع مع إسرائيل، وأيضا التهديد بمراجعة اتفاقيات السلام، والتأكيد على رفض التهجير، وكلها رسائل إلى الخارج بشكل أساسي، بما فيها استعداد مصر لخطوات يكفلها القانون الدولي في الدفاع عن سيادتها ومصالحها. وبجانب هذه الرسائل، جاءت خطوات القاهرة للتوجّه إلى أطراف أوروبية بهدف جذبها إلى موقفها. وبدا ذلك في لقاءات واتصالات مكثفة، بينها المؤتمر الصحافي مع رئيسي الوزراء الإسباني والبلجيكي، وتأكيد رفض التهجير، وإعلان إسبانيا وبلجيكا ضرورة وقف القتال، والاعتراف بدولة فلسطينية، ما أزعج خارجية إسرائيل وجعلها تستدعي سفيري البلدين لديها، بدعوى إطلاق مزاعم كاذبة ودعم الإرهاب، وردت إسبانيا (تترأس الاتحاد الأوروبي) باستدعاء سفيرة الاحتلال في مدريد وإبلاغها الاحتجاج رسميا.
تبذل القاهرة مع عمّان جهودا في الإغاثة وفك الحصار والتوصل إلى قرار وقف الحرب، بما في ذلك الهدنة التي جرت بوساطة مصرية قطرية
وعمليا، لن يستطيع الاحتلال أن يؤمن وجودا مباشرا في القطاع فترة طويلة، لفداحة التكلفة، والتي تضاف إلى خسائره من المواجهة مع المقاومة، لكن ذلك لا يلغي مخطّطات الاحتلال، وتداعيات امتداد الحرب بالقرب من مناطق منزوعة السلاح، أو مطالباتٍ بوضع آليات مراقبة على الحدود والمعابر، وتوسّع المواجهات وطول أمدها، وتهجير سكّان القطاع.
وتبذل القاهرة مع عمّان جهودا في الإغاثة وفك الحصار والتوصل إلى قرار وقف الحرب، بما في ذلك الهدنة التي جرت بوساطة مصرية قطرية، وتبدو القاهرة أقرب، وفي حالة تفاهم مع حركة حماس حاليا، لتفادي ضغوط الحرب، لكن هذا الموقف المتطوّر نسبيا، يتناقض مع تصور وجود دولة منزوعة السلاح، أو دخول قوات أجنبية بمشاركة دولية في تعيين وضع القطاع بمساندة عربية لتحقيق الأمن، وهو أقرب إلى تصورات أوروبية.
بينما تتكثف الجهود لإنهاء الحرب، وهو هدف اكتسب، أخيرا، تأييدا على الصعيد الدولي، هو الأفضل، وبين مهام ملحّة، معالجة مشكلة النزوح، والتي تتطلب تعاونا وتنسيقا من الأطراف الفاعلة، وبينها مصر والأردن وقطر، كمجموعة عمل، وتمثل الاستجابة لوضع النازحين، حائط صدٍّ لمخطّطات التهجير، وعامل إسناد لصمود الشعب الفلسطيني، حيث يمثل النازحون حاليا 80% من سكّان القطاع، يعيشون وضعا كارثيا، بافتقادهم سبل الحياة، وحتى مراكز "أونروا"، البالغة 156 في القطاع، يسكنها ما يقارب مليون نازح، أضعاف طاقتها، وأغلبهم في خانيونس ورفح.
تظل المهامّ المرحلية والتكتيكات مهمّة، تمهيدا لما هو استراتيجي، والذي يحتاج أن يقرّره ممثلو الشعب الفلسطيني
هذا بالتوازي مع تعميق القاهرة الصلات مع القوى الفلسطينية، والقيام بدور مناسب مع حجم إمكانات تمتلكها، مع تجنّب طرح مقترحات استراتيجية، تبدو مفروضة على الفلسطينيين، مع موقف القاهرة التاريخي، من احترام حقّ تقرير المصير، والمطالبة بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، على حدود 1967 عاصمتها القدس، من دون تراجع أو تنازل، بدعوى أنه بعيد المنال، فهناك، دائما، الحلول الاستراتيجية، وأخرى مرحلية، بجانب المهام الملحّة، وتظل المهام المرحلية والتكتيكات مهمة، تمهيدا لما هو استراتيجي، والذي يحتاج أن يقرّره ممثلو الشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق، مهم استكمال الجهود التي بدأتها القاهرة، لبناء حوار بين كل الفصائل الفلسطينية (مع التنسيق والتكامل مع جهود مماثلة) وهي مهمة ملحّة وأساسية، مع تداعيات العدوان على غزّة والضفة التي تشهد عدوانا موازيا، واعتقالات تزيد عن ثلاثة آلاف منذ 7 أكتوبر، وشهداء واقتحاما للمخيمات خصوصا، وهدما للمنازل، هذا بجانب تمييز عنصري يطاول كل الفلسطينيين في مناطق الاحتلال.
ومرحليا، بقاء المعابر مفتوحة، وضمان وصول الإغاثة إلى القطاع بكميات مناسبة، ودعم خدمات صحية، واستقبال أعداد أكبر من المصابين في مستشفيات مصر، مع توفير خدمات الاتصال، والمساعدة بالتعاون مع أطراف عربية في توفير محطّات طاقة شمسية، يزيد من صمود الفلسطينيين، وقدرتهم على مواجهة العدوان، اذ ما توفرت سبل الدعم بالتعاون مع الشركاء أصحاب المصلحة، وهذه الخطوات هي الحل العادل الذي يضمن لمصر أمنها الواجب، ودورها الذي يليق بها، ويشكل موقفا سيكون محل تقدير، وأيضا منتظرا.