كوميديا الرئيس

12 مارس 2022

الرئيس الأوكراني زيلينسكي يخاطب مواطنيه من مكتبه في كييف (8/3/2022/الأناضول)

+ الخط -

لئن كانت حرب روسيا على أوكرانيا حربًا "غير شريفة" كما يزعم الغرب، فإن ردّات الفعل عليها، غربيًّا وأوكرانيًّا، تفوقها انعدامًا للشرف، وفي مقدّمتها استدعاء المأساة اليهودية، الذي جاء على لسان الممثل الكوميدي سابقًا، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حاليًّا، وهو يدعو يهود العالم إلى عدم التزام الصمت حيال قصف روسي قريب من موقع بابي يار الذي شهد مذبحة لليهود على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكأنه يريد تمرير رسالةٍ مفادها بأن مأساة اليهود تتكرّر على يد "نازيين جدد" في موسكو، وهو يعلم جيدًا ما يثيره هذا الاستدعاء من مشاعر ليس لدى اليهود فقط، بل في الغرب كله، الذي ما يزال يحمل عقدة ذنب لم يبدّدها نحو قرن، ولا تعويض وصل إلى حدّ منح اليهود دولة كاملة على حساب شعب آخر. وهنا تبدو الرسالة كأنها موجهة إلى الغرب أولًا؛ لا إلى اليهود، لأن زيليسنكي يعرف أن المطلوب في هذه المرحلة استدراج الآلة السياسية والعسكرية الأميركية والغربية إلى جانبه.

ولعل المفارقة هنا أن اتهامات "النازية الجديدة" تصدر من طرفي الصراع معًا، فقد ساق فلاديمير بوتين هذا الاتهام الذي ألصقه بالقيادة الأوكرانية في معرض سرد مسوّغاته للحرب على أوكرانيا، مع فرق أنه لم يعزف على وتر الطوائف والقوميات كما فعل زيلينسكي، لأنه يعدّ نفسه وريثًا لإمبراطوريةٍ أمميةٍ ذات أيديولوجية تستوعب شعوب العالم كلها.

معلومٌ مثل هذا اللجوء إلى توظيف أسلحة غير شريفة في الصراعات، غير أن توظيف الرئيس الأوكراني المسألة اليهودية يلامس، في رأيي، استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًّا، كالنووي؛ لأنه توظيف رخيص أولًا، ولأنه لم يعد ينحاز للضحية، بل للجلاد، بالنظر إلى احتلال الصهاينة اليهود أرض فلسطين، وما رافقه من أبشع أشكال الممارسات الوحشية ضد أبنائها، وفي ذلك ما يدلّ على حسم موقفه لصالح فكرة الاحتلال نفسها التي يحاربها هو على أرضه، وهو بذلك يتناغم مع الموقف الأميركي والغربيّ نفسه، لكن مع زيادة في الجرعة تمجّد الاحتلال الصهيوني، الذي تخجل منه بعض شعوب الدول الغربية، على غرار أيرلندا مثلًا.

بهذا الاستدعاء، أيضًا، يخسر زيلينسكي تعاطف الشعوب العربية مع قضيته؛ لأنها سترى فيه يهوديًّا متطرّفا، لا يختلف كثيرًا عن الصهاينة المحتلّين، سيما عندما تستدعي هي، في المقابل، الموقف الأوكراني الرسمي حيال الاعتداءات والمجازر الصهيونية في غزة، وربما يخسر تعاطف شعوب أخرى لا تعترف بالكيان الصهيوني، ولا تفرّق بين احتلال واحتلال. لكن يبدو واضحًا أن زيلينسكي لا يقيم وزنًا لغير الموقف الأوروبي والأميركي، القائم على العرق الأزرق وتفوّق الرجل الأبيض، وعلى إمبراطورية المال اليهودية في العالم، وعلى منظومة غربية متحكّمة بالأمم المتحدة وقراراتها.

وفي خضمّ هذا "التهريج" الذي يزاوله زيلينسكي، ظنًّا منه أنه يؤدّي دورًا كوميديًّا في أحد مسلسلاته، يغيب عنه، وسط عواصف التصفيق التي يُقابل بها على المنابر الغربية كلما ظهر على شاشات التلفاز، ويغفل أو يتناسى أن مسرح الواقع مغايرٌ تمامًا لمسارح التهريج، فهو ليس أزيد من ألعوبةٍ أرادها الغرب طعمًا لاصطياد الدبّ الأكبر. ولا بأس أن يُنفخ فيه ويكون محطّ الأنظار كبطل ومناضل يقود حرب الدفاع عن وطنه، وينبغي دعمه ومؤازرته، ولو كان الغرب ينظر إليه وإلى بلاده على محمل الجدّ، لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، قبل الحرب، ولكان كفاه وكفى شعبه تكلفة هذا الصراع المرير. وسيعاين، بنفسه، بعد أن تضع الحرب أوزارها، مبلغ التهميش والازدراء اللذين سيحظى بهما بعد أن يكون قد أدّى دوره "التمثيلي" بنجاحٍ لا يُحسد عليه.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.