كوكب اليابان: العرب وجلد الذات

11 يوليو 2022

عناصر شرطة يابانيون أمام مقر رئاسة الحكومة في طوكيو (9/7/2022/الأناضول)

+ الخط -

بمناسبة اغتيال رئيس الوزراء الياباني السابق، شينزو آبي، في مدينة نارا اليابانية، في أثناء إلقائه خطاباً انتخابياً، وهو اغتيال سياسي ينطوي على سلوك إجرامي وإرهابي موجود في كلّ مكان، واليابان ليست استثناءً منه، يمكن أن نتذكّر بعض أخبار تشي بأنّ اليابان ليست كوكباً بمفردها، على حد وصفٍ درج أخيراً في الأحاديث العربية، ينطوي على انبهار شديد بتلك البلاد، بل هي من هذه الأرض، بخيرها وشرّها؛ فلما انفجر وباء كورونا، مثلاً، وفرض الحظر في معظم الدول ومنها اليابان، نقلت عدسات الكاميرا تزاحم اليابانيين على أبواب المحال التجارية، وتسابقهم حد التنازع وتبادل الضرب للحصول على الكمّامات والمواد الغذائية من أرفف البقالات والصيدليات. وهي صورة تتعارض مع هيئة الشعب المنظّم الذي يصطفّ بالطابور ويحترم الدور والنظام العام والقانون، بل تُظهر أنه شعب من طينة البشر، لا يختلف تصرّفه عند الخوف والقلق على الحياة عما فعله ناسٌ كثيرون في مختلف الدول خلال الجائحة.
ما دامت اليابان ليست كوكباً متفرّداً عن هذا العالم، بل تنتمي لكوكبنا ذاته الذي تعيش عليه شعوب العالم كلها، فما غاية ذلك الوصف العربي الذي يشي بالاعتقاد بمثالية ذلك البلد الآسيوي القصيّ وكماله، من حيث أخلاقيات شعبه وجودة الحياة فيه؟ الحقيقة أنّ أكثر العرب لا يعرفون اليابان جيداً كي يحكموا عليها، تماماً كما أنّ أكثرهم لا يعرفون شعوب شرق آسيا وبلاده إلا بما يقدمه لهم الإعلام الغربي، وينقله الإعلام العربي مترجماً عنه، إلّا استثناءات قليلة تلقي ضوءاً موضوعياً على ذلك الجزء من العالم. أما الانبهار باليابان، فمردّه تلك الصورة الانطباعية عن أخلاق شعبها، وعن نجاحها المبهر في التحوّل من الهزيمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية إلى التفوق الاقتصادي، بفضل تقديم منتجات صناعية وتكنولوجية فائقة الجودة، غزت العالم منذ نحو نصف قرن.

ليس انبهار العرب باليابان انبهار المغلوب بالغالب، بل انبهار المغلوب بمغلوب آخر استطاع النهوض من هزيمته وتأخره واللحاق بركب العالم والتأثير فيه

لكنّ العرب مبهورون بالغرب أيضاً، انبهار المغلوب المولع بتقليد الغالب، على ما قال ابن خلدون في مقدمته، وهذا، على الأغلب، ما يشي بخصوصية اليابان في الوعي الجمعي العربي، ذلك أنه ليس انبهار المغلوب بالغالب، بل انبهار المغلوب بمغلوب آخر استطاع النهوض من هزيمته وتأخره واللحاق بركب العالم والتأثير فيه. ليس ذلك فقط، وإلّا كانت أمم أخرى جديرة بانبهار العرب أيضاً، وفي مقدمتها الصين التي سبقت اليابان اقتصادياً، وتكاد تسبق أميركا خلال سنوات. لعلّ النقطة الفارقة لصالح اليابان اعتراف الغرب بنهوضها وتميّزها وأخلاقها، وهو أمر لا تحوزه الصين التي تلاقي دعاية غربية مسيئة تنتقدها أخلاقياً على مستوى السياسة والصناعة سواء بسواء.
لكن هل يعني ذلك أن تميز اليابان اختراع غربي محض؟ بالطبع لا، فلدى اليابان من أخلاق الشرق وتقاليده الكثير، ولديها من التفوّق الاقتصادي الكثير، لكن الأمر ما كان له أن يبلغ حد وصفها بالتفرّد الكوكبي، لولا اعتراف الغرب بتميزها ذاك، والسماح لأخبار ذلك التميّز بالعبور عبر الإعلام الغربي.
على أنّ الإعجاب باليابان دولة ناهضة وشعباً رفيع الأخلاق، أكان ذلك الإعجاب موضوعياً أو مبالغاً فيه، ليس مثلباً لنا، نحن العرب، إلّا إذا كان ينطوي على جلد الذات، عبر عقد مقارناتٍ تنطوي على مبالغاتٍ بين أحوالنا وأحوال اليابانيين، خصوصاً من الناحية الأخلاقية. وربما لا نجانب الواقع، إذا قلنا إنّ جوهر الإعجاب العربي باليابان الذي ينطوي على كمٍّ هائل من المبالغة، إنّما غرضه جلد ذاتنا العربية، أمة مهزومة ومتأخرة حضارياً، ولا تحمل مشروعاً مستقبلياً ينطلق من الارتكاز على ثقافتها وأخلاقها. ويكون طبيعياً اختيار اليابان لهذه المقارنة المؤلمة، عوضاً عن الغرب، لأنّها ليست عدواً كما هو الغرب بالنسبة لنا، ولم تكن قوة محتلة لبلادنا يوماً، وليست متّهمة بالتخطيط للإضرار بمصالحنا حاضراً ومستقبلاً، هذا في وقت تحوز فيه اعتراف الغرب المنتصر كما أسلفنا.

نقارن أنفسنا باليابان، لنقول لذواتنا إنّنا أمة فاشلة، أقلّ من الأمم الأخرى ونموذجها اليابان

الأمر إذاً، ليس الانبهار باليابان، بل تلك المشكلة المعروفة في علم النفس، الموصوفة بانخفاض تقدير الذات واحترامها، فهي، وإن كانت تُنسب إلى الأفراد عادة، أي إلى المشكلات النفسية الفردية، فإن من الممكن القول إنها تنسحب علينا كأمة تائهة في التاريخ، تشعر بالضعف والمهانة والتهميش، لكنها، في الوقت نفسه، تحلم بالمجد والنهوض، فتجلد ذاتها، لأنّها لم تجد إلى ذلك المجد سبيلاً بعد.
من تجليات تلك المشكلة النفسية، رفض الذات، والإحباط منها ولومها، وهو ما نقوم به تجاه أنفسنا بوصفنا أمة بشكل مستمر، ثم السعي إلى المثالية والكمال، وهذا عين ما نطلبه عند المقارنة مع "كوكب اليابان" التي نتخيّلها عالماً مثالياً بلا عيوب، نتمنّى أن نكون مثله، ونعتقد أنّ مثاليته المفترضة شرط أساسي للانطلاق نحو النهوض الحضاري.
يتبع ذلك أنّ من معالم انخفاض تقدير ذاتنا، بوصفنا أمة، شعورنا بعدم القيمة، فالحال أنّنا نقارن أنفسنا باليابان، لنقول لذواتنا إنّنا أمة فاشلة، أقلّ من الأمم الأخرى ونموذجها اليابان.
لقد جرى تغذية فكرة "كوكب اليابان" في الثقافة العربية في السنوات الأخيرة من خلال برامج تلفزيونية عن مثالية اليابان وحازت شعبية كبيرة، كالذي قدّمه المذيع المشهور أحمد الشقيري قبل بضع سنين عبر فضائية "إم بي سي" كذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تتردّد فيها عبارات تخلع الكمال على اليابانيين، شيباً وشباناً وأطفالاً. ويبقى أنّ اليابان ليست مسؤولة عما نصفه بها، وما نعتقده عنها، خصوصاً أن الأمر مردّه أزمتنا الحضارية نحن، لا نجاح اليابان وتقدّمها بحد ذاته، فذلك النجاح العظيم يستحق منا الدراسة والفهم والتحليل وأخذ العبرة، لكن بموضوعية وعمق، من دون مبالغةٍ أو تهويلٍ أو تطرّف بالمديح.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.