كل هذه النفايات

25 اغسطس 2015

لبنانيون يحتجون في بيروت على أزمة النفايات (أغسطس/2015/العربي الجديد)

+ الخط -
نتذكّر أن برنامج المرشح للرئاسة في مصر، قبل ثلاثة أعوام، محمد مرسي، تضمّن تعهداً بتحقيق نظافة الشوارع والأرصفة والميادين. وبعد مائة يومٍ من رئاسته، أعلن الرجل أنها شهدت تحسناً في هذا الملف. كان ذلك مبعث استهجانِ عديدين، بعضهم من مناصري مرسي، في تلك الأثناء وبعد كل الذي صار، إذ لا يحسن بالرئيس أن يُشغل باله بتفصيلٍ كهذا، هو من مسؤوليات رؤساء البلديات والمحافظين. ولا ينتقص من بهاء القاهرة ولطافتها، وهي من أهم حواضر الشرق، أيُّ حديثٍ عن جهودٍ كبرى مطلوبة لتصير أنظف، ولتخلو شوارعها وميادينها من النفايات والمخلفات. وهذه بيروت، عاصمة سويسرا الشرق، على ما وُصف لبنان عقوداً، وهي المدينة العربية المبهجة لزوارها وضيوفها والسياح فيها، يصبح تراكم النفايات فيها قضية سياسية واجتماعية ووطنية... وثورية أيضاً، بل صارت قشّةً يُراد منها أن تقصم ناساً وترفع آخرين، ما قد يرشّح الحالة المنظورة، في لبنان منذ أيام، إلى أن تؤول موضوعاً إقليمياً مثيراً. والبادي أن أشقاءنا اللبنانيين، في أمرهم هذا، يؤكدون براعتهم المشهودة في أن يعملوا من الحبّة قبّة، وهذه تعليقاتُ نخبٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ وثقافية منهم على النفايات في البلاد توضح أن ما وراء الأكمة هو المراد من القصة كلها، وليس الأكمة نفسها.
ولكن، من قال إن حق المواطن العربي في بيئةٍ نظيفة، خاليةٍ من النفايات والمخلفات، لا تسبب له الأمراض، تفصيل ثانوي. لنا، هنا، أن نُشهر، بالصوت العالي، أن النخب الحاكمة في غير بلد عربي، ما دام أنها فشلت في تحقيق أشواق المواطنين العرب بالحريات العامة، وبتوطين نظم سياسية تقيم الحقوق والعدالة، وتيسّر فرص العيش الكريم، مطالبةٌ بأن تلتفت إلى حقوق رعاياها بأن يعيشوا في بيئاتٍ تتوفر على شروط السلامة العامة، بكل ما يلزم لبيئاتٍ نظيفة وغير ملوثة. وإلا ما نفع كل هذه الوزارات للصحة والبيئة والتعليم، وكذا مجالس المحافظات والبلديات والجهويات في بلادنا العربية. ولا يتعلق هذا الأمر، البالغ الأهمية، بقدراتٍ مالية، على ما قد يتوهم بعضهم أن نظافة مدن دول الخليج، على العموم، تعود إلى ميزانياتٍ وفيرة. لا، ليس الأمر كذلك، فعواصم عربية كبرى كانت على أناقةٍ لافتة، ونظافةٍ ممتازة، وبيئةٍ معافاة، في ستينيات القرن الماضي وأربعينياته وخمسينياته، وبعض سبعينياته، قبل أن تنحدر إلى الحال الذي نعرف. ومثالاً، كانت عاصمة عربية تزهو بالنظافة الضافية فيها، غير أنها باتت، منذ أعوام، تسرع إلى الخلف في هذا الشأن الحيوي. وفي عاصمة أخرى، حدث أن صاحب هذه الكلمات استوضح، بحذرٍ، عن سبب قلة النظافة ووفرة المخلفات في الشوارع والساحات، فقوبل سؤاله باستفسارٍ من مضيفيه عمّا إذا كان قادماً من ريف ألمانيا.
ليست النوستالجيا إلى الماضي ما يغري بالتأشير إلى ما كان في أزمنةٍ راحت، والمقارنة مع الماثل بين ظهرانينا، وإنما التنويه إلى أن التخلف المريع الذي يقيم فيه الراهن العربي، حيث نفايات الإقليمية والمذهبية والزبونية، والفساد المهول، والاستبداد الثقيل، يتوازى مع حال اللامبالاة ونقصان المسؤولية لدى أهل الإدارة والتسيير والتنفيذ والإشراف والرقابة في شؤون المواطنين، فيما يخص الصحة والسكنى اللائقة. يتسع هذا الحال باضطراد في بلدانٍ عربية ليست قليلة، تتراجع فيها التعددية والتنمية السياسية الحقّة، وتتناقص المشاركة المواطنية، مع تعزيز الديكوريّة الفارغة من المحتوى الديمقراطي والمضمون الحقوقي والمدني. وفي هذه الغضون، ثمّة دوامات إعلام مضلل ودعائي مقيت، لا تتوقف مهرجانيته البلهاء والمؤذية للأفهام والمدارك. وفي الإحالة إلى تفاصيل عربيةٍ من هذا القبيل، لم نبعد كثيراً عن لبنان الذي يرفل في سعةٍ من الحرية، من دون مقادير وازنةٍ من الديمقراطية. ولم نبعد عن مصر، وإن كان السؤال عن النظافة في عاصمتها ومدنها يوحي بدعةٍ وترفٍ ذهنييْن، فيما عنف السلطة وأذاها، هناك، كثيران.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.