كل هذه اللقاحات ضد كورونا
لم تعد الصدارة في أنباء كورونا للأعداد المتزايدة، في دول عديدة، للمصابين بالفيروس، ولضحاياه المتوفّين، وإنما للأخبار التي تتوالى عن اللقاحات، ومواعيد توزيعها في أركان المعمورة، إذ يُشيع خبراء وسياسيون، ومنصّات إعلامية دولية وازنة، إنها أقلّ من شهرين وتبدأ هذه العملية، بل يبشّر الرئيس الفرنسي، ماكرون، بأن اللقاح سيكون متوفرا قبل نهاية العام. وفي الأثناء، تتدافع دعواتٌ إلى العدالة في توزيع جرعات اللقاحات في العالم، الأمر الذي ألحّت عليه القمّة (الافتراضية) لمجموعة الدول العشرين، برئاسة العربية السعودية، والتي اختتمت أمس الأحد. وفيما قالت المستشارة الألمانية، ميركل، إن منصّة المجموعة ستوزّع ملياري جرعة من اللقاح ضد كوفيد 19 على العالم، نودي، في القمّة وغيرها، بأن لا تتحمّل الدول منخفضة الدخل وحدها نفقات شراء اللقاحات وتوزيعها على مواطنيها. ولا يملك واحدُنا غير تثمين هذا الحسّ العالي من التضامن الإنساني والتعاون الدولي، وإنْ في البال إن السياسات التنفيذية، والإجراءات العملية، هما الأوْلى بالاكتراث من خطاباتٍ ودعوات، لبعضها تقديرٌ واجب، ولأخرى أن تُهْمل، فالدّعائي المسترسل في المحافل الدولية يبقى من ألاعيب معتادةٍ لدى الدول الكبرى خصوصا. وإذا صحّ الخبر أن 1,1 مليار جرعة تعاقدت على شرائها دول غنية، حتى الآن، فذلك قد يعني أن لا شيء بقي للدول الفقيرة، على ما كتبت معالجاتٌ إعلاميةٌ، غير أن دولا غنية (ومنها عربية خليجية) وعدت أخرى فقيرة ومحتاجة بتوفير كمياتٍ من اللقاح لها. وجاء حسنا أن شيخ الأزهر، أحمد الطيب، كان صوتا طيبا في أثناء التداول الجاري بشأن الخرائط المرتقبة للتطعيم باللقاحات في العالم، عندما دعا الشركات المنتجة إلى اعتماد سياسةٍ عادلةٍ لتوزيع اللقاح، انطلاقا من "رسالتها وضميرها الإنساني".
تخبرنا "نيويورك تايمز" إن 54 لقاحا ضد كورونا الآن في التجارب السريرية، وإن 87 في التجارب قبل السريرية. وكانت منظمة الصحة العالمية قد أفادت، في سبتمبر/ أيلول الماضي، بأن ثمّة أكثر من 150 مشروع بحثٍ علميٍّ لاحتواء الفيروس التاجي. وأخبارٌ من هذا النوع تسلّح الحكماء في العالم، من أصحاب أصوات التعقل ونبذ الصراعات والحروب، والدعاة إلى تعظيم المشتركات الإنسانية، وإلى أن تنصرف الحكومات والهيئات الدولية إلى كل ما من شأنه إسعاف البشرية من المخاطر والأوبئة، وإلى الإسهام بإنتاج ما ييسّر حياتها وعيشها في كل مكان، تسلّحهم هذه الأخبار بمزيدٍ من وجاهة تأكيدهم القيمة العليا للعلم، وتُضاعف المكانة المؤكّدة للمعرفة وصنّاعها، ولأهل الاكتشاف والاختراع والتجريب، من أجل انتصار الإنسان في حروبه ضد الأمراض وأسبابها. وفي الوسع أن يُقال إن وصول أهل الطب والمختبرات والكشوفات وعلماء المناعة والأمصال، في مختلف القارّات، إلى أكثر من مطعومٍ ضد كورونا، بعضها عالي الفعالية، على ما صرنا نعرف، في أقلّ من عام على رصد الفيروس في الصين، دليلٌ جديدٌ على أن للعلم قوته الوازنة، وقدرته على الانتصار ضد أي تحدّ يطرأ قدّامه. ولنا، نحن العرب، في هذا المقام، أن نجدّد، مندبتنا إياها، عندما لا نلحظ أي إسهامٍ لمؤسساتٍ طبيةٍ وعلميةٍ وبحثيةٍ عربية في هذه الأوراش في المعركة ضد كوفيد 19. وإذا كان ليس مفاجئا أن تتقدّم المؤسسة العلمية والمخبرية في كل من الولايات المتحدة وألمانيا (وبريطانيا) في هذا كله، يحسُن أن لا نغفل عن محاولاتٍ علميةٍ، لها جدّيتها، تمّت في الصين والبرازيل وروسيا. ولمّا كان المغربي، منصف السلاوي، يشرف على شركة موديرنا الأميركية، صاحبة لقاحٍ متقدّم ضد كورونا، بفاعليةٍ وصلت إلى 95%، ولمّا كان لعالميْن لبنانيين في الشركة أدوارهما في هذا النجاح، ولمّا كان لعالم جزائري إسهامٌ جوهري في وصول شركة بيونتيك الألمانية، في شراكتها مع "فايزر" الأميركية، إلى لقاحٍ ربما سيصير الأكثر استخداما، فذلك كله من دلائل على قدرة كفاءاتٍ عربيةٍ على مساعدة الإنسانية في معركة العلم، ولكن في بيئاتٍ غير التي في بلادنا الزاهرة إياها.
.. نتابع أخبار اللقاحات، ومنافساتٍ جيوسياسيةٍ غير خافيةٍ بين دول وشركات كبرى، ومناكفاتٍ بين ترامب وبايدن، وفي علمنا أن تدابير وخططا إداريةً وتنظيميةً ذات كفاءةٍ يلزم أن تواكب عمليات توزيع اللقاح وتطعيم الناس به .. وفي الانتظار، ليس ثمّة غير الصبر والدعاء بالشفاء للإنسانية جمعاء.