كل هذا الحديث الإسرائيلي عن حرب أهلية مدمّرة
حافظت إسرائيل، على امتداد 75 عاما، على وحدتها ووحدة مؤسّساتها، وبخاصة العسكرية والأمنية والرسمية، خلال كل الحروب التي خاضتها ضد العرب. وكان ذلك من أبرز شروط الفوز أو الحفاظ على الذات حدّا أدنى، وتلافي الهزيمة الماحقة، لأن ثمّة قناعة راسخة في أوساط الإسرائيليين بأن الهزيمة الأولى ستكون الأخيرة، بحيثُ لن تقوم لهذه الدولة الغريبة عن محيطها، والمطوّقة بالأعداء من كل جانب، أي قائمةٍ في حال تعرّضها لهزيمة.
لا تخلو إسرائيل من صراعات المصالح والتناقضات الاجتماعية والسياسية والفكرية، بل على العكس، هذه حاضرة وعميقة، وتعكس نفسها في مختلف جوانب الحياة الإسرائيلية، بدءا من أماكن السكن المقسّمة حسب الأعراق والمذاهب والأصول، مرورا بلغة البيت والشارع والثقافة التي يُربّى عليها الأولاد، وصولا إلى الحزب الذي تنتخبه التجمّعات السكانية المتباينة والمجاميع العرقية والمذهبية، لكن هذه الخلافات كافة تُطوى في أيام الحرب، وقد اعتادت إسرائيل أن تتّحد، مُكرهةً أو راغبةً لكي تتمكّن من مواجهة أعدائها.
مع وصول اليمين واليمين المتطرّف بزعامة بنيامين نتنياهو إلى الحكم في أواخر العام الماضي (2022) بتنا نسمع نغمة التحذير من حربٍ أهليةٍ وشيكة في كل يوم تقريبا. في مقالات الرأي والتحقيقات والبرامج الحوارية، وفي محطّات التلفزيون، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. ولا تصدُر هذه التحذيرات فقط عن مفكّرين وكتّاب يغلب التشاؤم على إنتاجهم، ولا عن قارئي المستقبل ومنجّمين من رجال الدين، بل عن قادةٍ سياسيين وعسكريين، أي عن رؤساء وزراء سابقين وقادة الجيش والأسلحة الرئيسية والأجهزة الأمنية، فضلا عن قادة الاحتجاجات الجماهيرية التي تعصف بإسرائيل منذ مطلع عام 2023.
لو عدنا قليلا إلى الوراء لوجدنا صدى هذه التحذيرات يتردّد في الدوائر الأكاديمية ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وتحديدا في مؤتمر الأمن القومي الذي يعقد في مدينة هرتسليا كل عام، ويبحث في التهديدات الأمنية الوجودية الداخلية والخارجية التي تواجِه إسرائيل، كالخطرين، النووي الإيراني والديمغرافي الفلسطيني، إلى جانب التناقضات الداخلية الإسرائيلية. ومع أزمة عدم الاستقرار التي واجهها النظام السياسي الإسرائيلي، أخيرا، وتجسّدت بإجراء خمس دورات انتخابية في أربع سنوات بين العامين 2019 و2022، بدأت التحذيرات من خطر الحرب الأهلية تخرُج إلى العلن. ولعل أبرزها الذي أطلقه رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، في مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في مايو/ أيار الماضي، عرف بمقال "لعنة العقد الثامن". يحذر باراك فيه من المصير الذي عرفته دولتان يهوديتان قديمتان في التاريخ، دولتا الملك داود و"الحشمونائيم" وهما أطول دولتين عمّرتا في تاريخ اليهود، لكنهما عرفتا الطريق إلى الانهيار والخراب في عقدهما الثامن بسبب صراعاتٍ داخلية تناحرية، أي بسبب "حرب الإخوة"، وهي كناية عبرية عن الحرب الأهلية.
التغييرات القضائية ستتبعُها تغييراتٌ تطاول النظام الاقتصادي وتعيينات كبار المسؤولين، وتسييس أجهزة الدولة، بما فيها الشرطة والأجهزة الأمنية
لم يكن ما جاء به باراك مجرّد نبوءة بقدر ما كان صرخةً لكبح اندفاع اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وربط ما كان منتشرا لدى عرّافين ناشطين في الأوساط الدينية المتزمّتة من خزعبلات وثقافة شعبية منتشرة في بعض أوساط اليهود الشرقيين، بالتحليلات الواقعية والموضوعية الحديثة التي ترصُد التغيرات في المجتمع وعناصر ضعفه وقوته وتماسكه وانقساماته. كان واضحا أن تغيرات عميقة أصابت المجتمع الإسرائيلي الناشئ بعد فشل "بوتقة الصهر" التي نظّر لها دافيد بن غوريون في الخمسينات، ثم أثر الاحتلال الإسرائيلي المديد للأراضي الفلسطيني والتحكّم بحياة الشعب الفلسطيني وقمع طموحاته الوطنية إلى وصول اليمين إلى الحكم في 1977 واستقرار هذا الحكم في العقدين الأخيرين، وتراجع قيم العمل الاجتماعي والمبادرة التي أرساها مؤسّسو المشروع الصهيوني، ورافقت تجربة الكيبوتس لتحلّ معها قيم الفردية وحرية السوق المقترنة بمشاعر التفوّق العرقي والتطرّف.
وقد التفت نتنياهو إلى ما يدور من نقاشاتٍ حول نهاية إسرائيل قبل اكتمال عقدها الثامن، فوعد في عام 2017، وبما يشبه البرنامج الانتخابي، بأن يتجاوز هذه العقدة، وأن يقود إسرائيل إلى مزيد من الرّخاء والتقدّم والعمر الطويل ويعزّز مكانتها الدولية والإقليمية، فكان هذا الزعيم اليميني بالتحديد هو الذي أدخل إسرائيل في هذه الأزمة العاصفة التي أطلقت كل الهواجس والمخاوف الكامنة.
ولأن الأزمة الحالية في إسرائيل لا ترتبط بخلافات فقهية بشأن القانون والديمقراطية، ولا بمجرّد تعديلات قضائية، بل ليست هذه الأخيرة سوى بداية تحكُّم قوى اليمين والفاشية الجديدة بكل مفاصل الدولة، فالتغييرات القضائية ستتبعُها تغييراتٌ تطاول النظام الاقتصادي وتعيينات كبار المسؤولين، وتسييس أجهزة الدولة، بما فيها الشرطة والأجهزة الأمنية، وسوف تقلّص مساحات حرية التعبير والهوامش المتاحة لـ"الديمقراطية اليهودية"، ثم سينتقل الأمر إلى الحريات الشخصية والمدنية، وصولا إلى محاولات فرض نوع من الإكراه الديني على الحياة العامة ومناهج التعليم. وفي المحصّلة، ستضعف هذه التغييرات كل أركان القوّة التي توفّرت لإسرائيل، وذلك سيؤدّي إلى إضعاف ثقة شرائح واسعة بالدولة والجيش، وتشجيع الهجرة العكسية وتأجيج التوترات الاجتماعية والإثنية.
لا تخلو إسرائيل من صراعات المصالح والتناقضات الاجتماعية والسياسية والفكرية، بل على العكس هذه حاضرة وعميقة
مع إصرار الحكومة على المضي في إجراءاتها للانقلاب على القضاء، وتجاهل النداءات ودعوات الحوار والتوافق، تجدّدت التحذيرات من خطر الانجراف إلى حربٍ أهلية، وقد صدرت عن مسؤولين كبار لا يمكن التشكيك في أنهم يطلقون الكلام على عواهنه، أو في مدى اطّلاعهم على حقائق المشهد الأمني والسياسي والاجتماعي، من هؤلاء رئيسا الوزراء السابقان إيهود أولمرت ويائير لبيد، ووزراء دفاع وخارجية سابقون، أمثال بيني غانتس وغابي أشكنازي وأفيغدور ليبرمان، وقادة أجهزة أمنية، وبخاصة الشاباك والموساد، مثل نداف أرغمان وتامير باردو. وقد انتقلت هذه التحذيرات المتكرّرة سريعا إلى مخاوف الجمهور وفق استطلاعات الرأي التي باتت تظهر خشية الأغلبية من انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية (57% بحسب استطلاع لصحيفة معاريف، وبين 63% إلى 67% في استطلاعات القناتين الثانية عشرة والثالثة عشرة مع ضرورة التنويه إلى أن هذه الاستطلاعات، في حد ذاتها، متأثرة بالمواقف من التعديلات القضائية، إذ إن ناخبي اليمين هم الأقل تخوّفا من الحرب الأهلية).
ويذهب محلل سياسي إسرائيلي بارز، هو أمنون أبراموفيتش، إلى أن الحرب الأهلية في إسرائيل بدأت منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 عند اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين على يد المتطرّف اليميني يغئال عامير. وهي تتجدّد من خلال عنف الشرطة والتهديدات المتبادلة بين الكتل الاجتماعية المتنافرة، كالتلويح بتحشيد التشكيلات المليشياوية للمستوطنين وزجّها في صراع الشوارع، أو الاستقواء بكتل جماهيرية معروفة بعنفها، مثل جماعة "لا فايميليا" التي هي أساسا "ألتراس" الفريق العنصري بيتار القدس. وعلى الرغم من كل هذه الأجواء المحتقنة والقابلة للانفجار، من الصعب توقّع خروج هذا الوضع عن السيطرة في الأفق المنظور، كأن نشهد اشتباكات شوارع ومتاريس كما عهدنا في العالم الثالث، حيث ما زال الجيش الإسرائيلي موحّدا وقادرا على التدخّل لضبط الأوضاع، وثمّة في الأساس الخيارات المدنية المتاحة، ومنها قرار المحكمة العليا التي ستبدأ في 12 سبتمبر/ أيلول المقبل النظر في الالتماسات حول التعديلات القضائية. ثم هناك ما يمكن تسميتها "الدولة العميقة" التي تمثل شبكة المصالح والقوى المسيطرة فعليا على الدولة، والتي لا يمكن أن تسمح لمجموعةٍ أو لفرد، كائنا من كان، بجرّ الدولة إلى انتحار جماعي وخراب الهيكل الثالث.