كل هذا الاستهتار بالعرب؟
لا تخفي التوصيفات التي يصدرها عسكر إسرائيل وسياسيوها بحق حركة حماس والفلسطينيين حمولاتها من ازدراء لقيمة العرب والاستهتار بهم، فالصراع، في نظرهم، مع عرب يوجدون في قطاع غزّة وبقية فلسطين، وهم جزء عضوي من هذا العالم العربي المحيط بهم، وهؤلاء "المتوحّشون" هم من ذاك النسيج العربي الممتدّ الذي يشبههم ويشبهونه.
هذه رسالة إسرائيل التي تريد من خلالها تعزيز سردية المظلومية، وإثبات أن مشكلتها لا تنحصر مع بضعة ملايين في غزّة والضفة الغربية وداخل أراضي 1948، بل مع طوفان عربي، تعدادُه مئات الملايين من المتوحّشين والهمج ينتظرون اللحظة المناسبة للفتك باليهود، يريدون فعل ذلك بسبب عدائهم الحضارة الغربية، أكثر من عدائهم إسرائيل بحد ذاتها. وعلى ذلك، العالم المتحضر مُجبرٌ على الوقوف خلف إسرائيل، وعلى تأييد سلوكها واستراتيجيتها للقضاء على هؤلاء الوحوش.
لكن السؤال، في هذه اللحظة العصيبة، ليس على أهل غزّة وحسب، وإنما على العالم العربي الذي يرى كل هذا التنكيل بقيمه وإنسانيته والتزوير المهول الذي يُمارس على مساحة واسعة من العالم بحقّ الشخصية العربية، كيف صدّق الغرب بسرعة كامل السردية الإسرائيلية ولم يعمد حتى على التخفيف من غلوائها وبعض دبلوماسياته لها خبرة أكثر من مائة عام مع العرب، وكثير من مفكّريه وخبرائه وتقنييه عملوا مع العرب، وتعاملوا معهم في حقولٍ كثيرة، ولماذا تجاهل الغرب مصالحه الكبيرة مع العرب بهذه الخفّة والتسرّع إن لم نقل بالإنكار؟
صارت العلاقة بين العالمين الغربي والعربي تحتاج إلى إعادة تعريف ووضع أسس جديدة لها
لقد طرحت حرب غزّة، وما أثارته من كراهية واستهتار غربي بالعرب، السؤال عن الاستثمارات العربية الهائلة في الدبلوماسية والعلاقات العامة وفي الإعلام ومراكز الأبحاث ومستويات صنع القرار في الغرب، وعن مليارات الصناديق الاستثمارية العربية في استمارات الغرب، وكيف أن ذلك كله لم يدعم أصواتا تكون موضوعية على الأقل لا منحازة للعرب؟ والأهم كيف لم يُحسّن هذا الاستثمار الضخم من صورة العرب في الذهنية الغربية التي لا تفتأ مع كل حادثةٍ أن تخرج من أدراج ذاكرتها نسخا سوداوية لهذه الصورة!
الأهم من ذلك كله أيضا أن غالبية الدول العربية إما باتت مطبعة مع إسرائيل أو في طريقها لسلوك هذا المسار، رغم رفض إسرائيل تقديم أي تنازلٍ يدعم هؤلاء، من قبيل وقف مصادرة أراضي الفلسطينيين وإنهاء حصار غزّة ووقف تعاملها العنصري مع فلسطيني الداخل ومنع المستوطنين من استباحة القرى والمدن في الضفة الغربية والتنكيل بأهلها، بمعنى أن إسرائيل بعد كل هذا الترويض للعرب لا يحقّ لها الحديث عن توحّش وهمجية، فيما تمارس هي سياساتها تجاههم بشكل غرائزي مقزّزٍ غارقٍ في الأسطرة والأيديولوجيا وينتخب شعبها ممثليه بناء على حجم كرههم للعرب.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: عندما توسلت إسرائيل التطبيع مع العرب، وأيد الغرب الخطوات العربية وصفق لها، هل كانوا على علم أنهم يطبعون مع وحوش، أم أن إسرائيل والغرب كانوا يطبّعون مع نخب بعينها بهدف تحقيق مكاسب أمنية واقتصادية وحسب؟ أليس هذا اعترافا منهم بانفصال تلك النخب عن شعوبها المتوحّشة الذين لا ترغب إسرائيل لا برؤيتهم ولا التداخل معهم تحت أي سببٍ كان؟.
ثم ماذا عن الديمقراطية، والتي، من كثرة التلطي وراءها في مرحلة الحرب على غزّة، بات كثيرون من دعاتها والمتحمّسون لها في العالم العربي في حالة خجل أمام مناصري الاستبداد وجماعات نظرية المؤامرة؛ فالحرب هي حرب الديمقراطيات ضد المتوحّشين، وإسرائيل جزء من العالم الديمقراطي الذي يتألم لما أصابها. وهكذا، في المقابل لا يرى ضمير هذا العالم الموت الفائض الذي تحقّقه إسرائيل في غزّة، بل إنهم يشكّكون في أرقام القتلى، مثلما يشكّكون بالقتلى أنفسهم.
ثمّة معادلة يُراد تثبيتها اليوم من الغرب تقوم على الحقّ في إيلامنا واستحقارنا
بعيدا عن الموقف من "حماس"، صارت العلاقة بين العالمين الغربي والعربي تحتاج إلى إعادة تعريف ووضع أسس جديدة لها، فهذه العلاقة التي لم تكن أصلا متوازنة قبل "7 أكتوبر" شهدت خللا فاضحا، وخصوصا مع نضح الغرب كل هذا الاحتقار والكراهية. صحيح أنه سبق التعبير عن هذه الكراهية بمناسبات متفرّقة، لكن كنا نظن أنها ردّات فعل معينة على بعض التصرفات، وربما تجاه مسائل محدّدة، لكنها اليوم تتجاوز كل حدود المنطق والمعقول. وثمّة معادلة يُراد تثبيتها اليوم من الغرب تقوم على الحقّ في إيلامنا واستحقارنا، هكذا لأن بيولوجيتنا لا يليق بها أكثر من ذلك، ولا يحقّ لنا الاعتراض أو التذمّر، وإلا ماذا يعني كل هذا الاستهتار بدم الملايين في غزّة وتشجيع إبادتهم والتنكيل بهم من دون توجيه أدنى لوم لإسرائيل، بل أكثر من ذلك أصدرت دول غربية أوامر بسجن كل من يرفع علم فلسطين واعتباره مؤيدا للإرهاب!
ماذا باستطاعتنا، نحن الشعوب، أن نفعل طالما أن حكّامنا ونخبنا لا يرون فيما يحصل إهانة واحتقاراً لهم؟ يمكننا مقاطعة بضائعهم ومنتجاتهم وقد أثبت هذا الفعل جدواه وفعاليته، حينها سيتذكّرون أن أموالنا تساهم بدرجةٍ كافية في رفاهيتهم، بل ربما تساهم في تذكيرهم أننا كنا نستهلك منتجاتهم الحضارية والثقافية والفكرية المعولمة، وأننا جزء من ثقافة هذه الحضارة، ولسنا منكفئين في غيتواتنا، وأن ملايين منا مندمجون في أوروبا وأميركا، ونشكل جزءا معتبرا من طاقتهما التشغيلية.