كل عام والثورة العراقية بألف خير
دشّنت الثورة العراقية عامها الثاني، وهي تحمل معها عدة حقائق دامغة. منها عجز أجهزة القمع الحكومية وسلاح المليشيات المسلحة والحرس الثوري الإيراني عن إنهاء الثورة العراقية، على الرغم من سقوط مئات الشهداء وألوف الجرحى. ومنها أن الثورة، على الرغم من سلميتها، أثبتت قوتها وصمودها وكسبت تأييد شعوب العالم واحترامها الكبير. ومنها أن أهدافها السياسية، وفي مقدمتها استعادة الوطن المنهوب، لم يجر التراجع عنها، أو المساومة عليها، أو القبول بأنصاف الحلول. حيث تجاهل الثوار رضوخ أركان العملية السياسية إلى بعض مطالبهم، واعتبروه خديعة، بغرض الالتفاف على الثورة، من قبيل استقالة رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، أو التراجع عن ترشيح محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي. أو إجراء تعديلات ترقيعية لقانون الانتخابات، أو تحديد موعد للانتخابات المبكرة في يونيو/حزيران العام المقبل، أو اعتقال فاسدين من الدرجة العاشرة. ومن حقائق الثورة أنها تميزت عن غيرها، فقد شملت معظم المدن العراقية، خصوصا المدن الجنوبية، وانضوى تحت لوائها الشعب العراقي، بمختلف تنويعاته. والأهم أنها قدّمت شعاراتها السياسية، على حساب الشعارات ذات المحتوى الخدمي والمعاشي، وفي مقدمتها إسقاط العملية السياسية برمّتها من حكومة فاشلة وبرلمان مزوّر وقضاء فاسد.
في المقابل، أكدت الثورة على التزام الشعب العراقي بثوابته الوطنية وعدم التفريط فيها، وقدرته على استعادة حقوقه، مهما طال الزمن وغلت التضحيات. في حين استطاع الثوار دحر جميع محاولات تقزيم هذا الشعب من خلال الإساءة له، وتوجيه الشتائم البذيئة بحقه، ووصفه بالتخاذل والاستكانة وقلة النخوة والسكوت على احتلال بلده، بل ونعته بأنه شعب تافه لا يستحق الحياة. مثلما تمكّن الثوار من إخراس الأصوات النشاز التي حاولت إلصاق التهم الباطلة بهم، بتوجيه الاتهامات للثوار كوصفهم بأبناء السفارات أو المندسّين أو أصحاب أجندات أجنبية. وبالتالي، أعادت هذه الثورة العظيمة إلى الذاكرة أمجاد العراقيين الكفاحية، ضد الغزاة والمحتلين والحكومات العميلة أو الديكتاتورية. بدءا بثورة العشرين المجيدة وثورة 1941 القومية، ومرورا بانتفاضة 1948 التي أسقطت معاهدة بورت سموث البريطانية الجائرة، والانتفاضات التي تلتها لتتوّج بثورة 14 تموز 1968، وليس انتهاء بملحمة المقاومة ضد المحتل الأميركي وتحالفه الدولي الذي تجاوز عدده أكثر من ثلاثين دولة، وتحطيم كبريائه في مدن عراقية عديدة، أبرزها الفلوجة التي ذاع صيتها في أنحاء المعمورة، على الرغم من افتقار المقاومة العراقية حينها إلى أية وسيلة إعلامية، مكتوبة أو مسموعة أو مرئية.
ولكن هذا ليس كل شيء، فقد عرّت الانتفاضة جميع ادّعاءات أحزاب العملية السياسية ومليشياتها، حول الوطنية وخدمة العراق والحفاظ على استقلاله ووحدته الوطنية، حيث كشفت أن ما يدور بين أطراف العملية السياسية من خلاف لا يتعدّى المناصب والصفقات المشبوهة وسرقة الأموال والثروات، وأي ادّعاء غير ذلك عن بطولات الحكومة الجديدة وتوجهات رئيسها لاستعادة هيبة الدولة وحل المليشيات وحصر السلاح بيدها، أو تلبية مطالب الثوار، ليس سوى أكاذيب وافتراءات لا أساس لها من الصحة، فهؤلاء لم يجر اختيارهم من المحتل، لبناء العراق الجديد، كما ادّعى المحتلون، وإنما تم انتقاؤهم بدقة لتنفيذ مشروع الاحتلال التدميري، وشرعنته بعقد اتفاقيات مذلة، مثل الاتفاقية التي عقدها رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي عام 2008، وسمّيت الاتفاق الاستراتيجي، أو الاتفاقية الأمنية التي باعت العراق بالجملة، والأخرى التي وقّعها الكاظمي قبل سفره إلى أميركا أخيرا، وهي نسخة طبق الأصل من الاتفاقية الأمنية المشؤومة.
لم تكتف الثورة بسقوط حكومة عادل عبد المهدي، فقد رفضت الكاظمي خليفة له، ولم تُخدع بالتعديلات الجزئية لقانون الانتخابات
أما ما نسمعه هذه الأيام بأن الانتفاضة خفّ صوتها وقل زخمها وانكفأت إلى داخلها، أو أنها انتهت ولم يبق منها سوى أصوات متفرقة، أو أنها قبلت بتسليم زمام أمورها بيد حكومة الكاظمي، فهذا ضلال مبين، فالثورة ما زالت جذورها تمتد في معظم المدن العراقية، وما زالت تحظى بتأييد جميع طبقات الشعب العراقي، وفئاته الاجتماعية المختلفة، ومذاهبه المتنوعة. ناهيك عن حجم القوة الكبير التي تتمتع بها، والإرادة والشجاعة والاستعداد للتضحية التي أصبحت أبرز سماتها. والأهم من ذلك كله أن الثورة مصرّة على تحقيق كامل أهدافها، وفي مقدمتها إسقاط العملية السياسية. وخير دليل على ذلك، لم تكتف بسقوط حكومة عادل عبد المهدي، فقد رفضت الكاظمي خليفة له، ولم تُخدع بالتعديلات الجزئية لقانون الانتخابات، ولا بكذبة إجراء انتخابات مبكرة، لعدم الوفاء بشروط الثوار، وفي مقدمتها كتابة قانون انتخابي جديد، ومفوضية مستقلة، وقانون أحزاب يمنع المشاركين في العملية السياسية من الترشح للانتخابات المقبلة. أما تراجع الانتفاضة، فمردّه المسؤولية الوطنية الكبيرة التي يتمتع بها الثوار، وتتطلب تجنب التجمعات في الأماكن العامة، لمنع انتشار وباء كورونا القاتل.
قبل أن يدوّي صوتها ويلهب مزاج الرفض العراقي الأصيل يوم انطلاقتها، حدّدت الثورة العراقية أماكنها ونوع شعاراتها، الخدمية السياسية
أما بدعة تسليم الثوار أمرهم بيد الكاظمي، باعتباره شخصية وطنية مستقلة، وإعلان التأييد الكامل له، فقد تكفل الثوار بالرد عليها، حيث صدرت عدة بيانات في هذا الصدد، منها بيان ثوار النجف الذي جاء فيه "إنه وبعد كل التضحيات الجسام التي قدمتها ثورة تشرين المباركة، منذ أكثر من ستة أشهر، ووفاء لدماء الشهداء، فقد قرّروا رفض هذا التكليف، لأنه جاء بإرادة خارجية، ولم يأت بإرادة وطنية عراقية، فضلا عن أنه غير مطابق للشروط التي وضعتها ساحات الاعتصام"، وأعلن البيان أيضا "رفض الثوار العملية السياسية التي تقودها الأحزاب الفاسدة جملة وتفصيلا". ليس هذا فحسب، وإنما طالب البيان الجماهير الوطنية كافة في داخل العراق وخارجه، "بالضغط بكافة الوسائل الممكنة باتجاه حل البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني مؤقتة". في حين خرجت جموع من الشباب إلى الشوارع، على الرغم من حظر التجول، للتنديد بالكاظمي والأحزاب الفاسدة. وغرّد نشطاء الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي التي ورد في إحداها، "كيف سيستطيع رئيس الوزراء القادم حصر السلاح بيد الدولة، وهو كلف بالمنصب بناءً على ثقة الجناح السياسي للعديد من الفصائل المسلحة؟".
تسير الثورة في ظل قيادة ولجان تنسيقية ذات خبرة ومهارة عالية من جهة، وهي غير مؤدلجة إلا بشعار الوطن من جهة أخرى، فبوصلتها العراق ثم العراق ثم العراق
مصدر قوة هذه الثورة وديمومتها تتمثل في تميّزها عن سابقاتها في أمورٍ عديدة، فقبل أن يدوّي صوتها ويلهب مزاج الرفض العراقي الأصيل يوم انطلاقتها، حدّدت أماكنها ونوع شعاراتها، الخدمية السياسية، قبل أكثر من شهر، عبر منصات التواصل الاجتماعي. وهي قد بدأت بقوة وانتشر لهيبها بسرعة البرق إلى المحافظات الأخرى، خصوصا الجنوبية منها، ولا يخفى على المتابع أن عماد هذه الثورة هم في الغالب من الشباب، ناهيك عن مشاركة النساء فيها لأول مرة، حيث لعبن دورا كبيرا في مساعدة أبناء الثورة، ناهيك عن حسن تنظيمها ودقة أدائها. وهذا ما يفسّر حالة الرعب التي انتابت أعداء الثورة في داخل العراق وخارجه، فبالنسبة للحكومة ومليشياتها المسلحة، فقد وجدت فيها بداية جدّية لإسقاطهم دفعة واحدة. أما أميركا العدو المحتل الأول، فإنه وجد في هذه الثورة ردّا صريحا وواضحا، يجسّد رفض العراقيين الاستسلام للأمر الواقع، والإصرار في المقابل على القتال المستمر بكل الوسائل، لانتزاع آخر حق من حقوق العراق وأهله. في حين كانت إيران الأكثر خيبة بين الخائبين التي ظنت أنها روّضت الشعب العراقي، وإذ هي تجد ما بنته في ستة عشر عاما قد هدم في ساعات، حيث أحرق الثوار قنصلياتها في كربلاء والنجف، ورفعوا فوقها شعار الثوار المعروف، "إيران برّه برّه وبغداد تبقى حرّة".
للاسترسال أكثر، تسير الثورة في ظل قيادة ولجان تنسيقية ذات خبرة ومهارة عالية من جهة، وهي غير مؤدلجة إلا بشعار الوطن من جهة أخرى، فبوصلتها العراق ثم العراق ثم العراق. كما أنها تحصّنت تماما ضد أن يركب موجتَها أي طرف في العملية السياسية، خصوصا التيار الصدري الذي اختصّ بسرقة الانتفاضات، قبل أن تصل إلى تحقيق أهدافها. أما تعاملها مع الجيش والأجهزة الأمنية فكان متناسقا وحضاريا، بحيث كسبت عطفهم وودّهم وأحيانا حمايتهم. في حين يزداد حجم الاستياء الشعبي ضد الحكومة، وعمليتها السياسية الطائفية، ليشمل طول البلاد وعرضها، جرّاء السقوط السياسي والإداري المدوّي لأطرافها، وجرّاء الدمار والخراب والقتل وسرقة ثروات البلد والفساد المالي والإداري وانعدام الخدمات.. إلخ. الأمر الذي سيؤدي حتما إلى تشجيع الناس على الدخول في رحاب الثورة، والالتفاف حولها. بمعنى آخر، سيندحر الأشرار وتنتصر الثورة عليهم، وستسقط حكومات المحاصصة الطائفية وأحزابها ومليشياتها، وسوف تعيد إلى العراق استقلاله وسيادته، وتطرد القوات الأجنبية، وتنهي الهيمنة والنفوذ الخارجي، وستقدّم القتلة إلى المحاكم، وحينها سيكون الحساب عسيرا، سواء لمن هم داخل العراق أو خارجه.