"كلفشتنا" الأقدار لنرى وجوهكم النيّرة

11 ديسمبر 2022
+ الخط -

يكثر الحديث في الحوارات المباشرة التي تُعقد بين سوريين، على "تيك توك"، عن الثورة. المتحدّثون، غالباً، أناسٌ اشتركوا في مظاهرات 2011، وتحوّل بعضهم إلى إعلاميين، من دون أية خبرة أكاديمية، وضباط منشقّون، وقادة فصائل جيش حر، وأعضاء مجموعات جهادية.. وكلهم يمنحون الثورة، في أحاديثهم، نوعاً من القدسية، ويعدّونها ترمومترَ الشرف، والأخلاق، والوطنية، فكل غير ذي ثورة، برأيهم، خائن، عميل، متآمر.

ثمّة حكايتان، يمكنهما أن تلخصا حال النظام السوري، وكيف أنه أوصل الناس إلى حافّة الانفجار، فانفجروا، وحالَ الثورة التي أخفقت، وصارت، كما يقول أهل إدلب "تلمّ غَبْرة". الحكاية الأولى؛ رواها لي المرحوم النجار أبو عمر، وتعود إلى الثمانينيات، أيام أزمة فقدان مواد البناء من الأسواق، بسبب العقوبات التي فُرضت على نظام حافظ الأسد، على إثر مجازر مدينة حماه. قال:

كنت أكثرَ النجارين الموجودين في البلد تضرّراً من أزمة فقدان الخشب، يعود ذلك إلى عنادي، وصلابة رأسي، فالنجارون الآخرون كانوا يشترون الخشب المهرّب من السوق السوداء، ويشتغلون، وعند بيع منتجاتهم يعكسون فرق السعر بين النظامي والمهرّب على المستهلك.. أما أنا فقد أقسمت ألا أعمل إلا بخشب نظامي، لأني غير مستعدّ لأن يأتي إلى دكاني عنصر أمن، من جيل أولادي، وينظر إليّ باستعلاء، ويقول لي: خشبك مهرّب يا أبو عمر.. فأضطر لأن أتذلّل له، أو أدفع له رشوة. المهم، ذات يوم، جاء إلى دكّاني النجار أبو سلوم، ومعه جريدة، فتحها، وأطلعني على إعلان لبيع الخشب، بسعر نظامي، لدى مؤسّسة الأشغال العسكرية في دمشق. سُررت بذلك، وفي اليوم التالي، صباحاً، سافرت إلى دمشق، وأخذت تاكسي من كاراج العباسيين إلى عنوان المؤسسة المذكور في الجريدة، اشتريت كمية خشب تكفيني لسنة، واستأجرت سيارة شاحنة، وأطلعتُ سائقها على الفاتورة النظامية، وانطلقنا باتجاه إدلب.

عندما اعترضت دوريةٌ أمنية طريق السيارة، بالقرب من مدينة حماه؛ كان قلب أبي عمر ممتلئاً بالثلج والبَرَد، يُمسك في يده الفاتورة النظامية التي اشترى هذه الأخشاب بموجبها، ويتخيّل في ذهنه سيناريو سلساً، إذ سيقول لأي عنصر دورية يسأله عن البضاعة إنها نظامية، ويقدم له الورقة المكتظة بالتواقيع والأختام، فيقول له الرجل: لا تؤاخذنا. تابع طريقك. ولكنه فوجئ عند هذه الدورية، ببندقية ملقّمة، مصوّبة إلى صدره، وبندقية أخرى مصوبة إلى رأس السائق، وإيعاز بصوت خشن يقول: ارفعوا أيديكم لفوق، وانزلوا، وبلا أكل هوا. وعندما قال له أبو عمر: معي فاتورة نظامية، أخذها من يده، وقال لأحد عناصره: خود يا إبني هالورقة، تلزمك لما تشخّ.

بلغ أبو عمر قمة القهر والغيظ، عندما أُخذت منه سيارة الخشب مع سائقها، وألقي في مكانٍ مكتظٍّ بأناس وجوههم تشبه تماثيل الشمع، شعورهم ولحاهم وأظافرهم طائلة. تحلقوا حوله، وسأله أحدهم عن تهمته فقال له: والله يا عين عمّك، ما في تهمة، ولكن، "كَلْفَشَتْنَا" الأقدار لنرى هذه الوجوه النيّرة!

عود على بدء، على حكاية الثورة، حكايتنا نحن الذين انفجرنا مع المنفجرين، وخرجنا مؤملين أن نتخلّص من نظام الاستبداد المشرّش، وننتقل وأبناءنا، وأحفادنا، وجيراننا، وكل أهالي بلدنا، إلى نظام علماني، ديمقراطي، يطبق فيه القانون على الجميع، ويكون للجميع فيه الحقّ بالمشاركة في الحياة السياسية، ونرى صورة الشيخ والخوري وهما يزرعان الشجرة، التي كان نظام الأسد يلصقها على الجدران، ليوهمنا بأنه متسامح، إلى صورة حقيقية.. ولكن ما حدث أن غطاء طبختنا انكشف، وصار كل من هبّ ودبّ يصبّ فيها بضاعته المتخلفة، وأمسى لسان حالنا يقول، ونحن نرى صور اللصوص الذين سرقوا الثورة، وساهموا في تخريب البلاد:

- والله يا شباب، نحن "كلفشتنا" الأقدار، ثُرنا، وقُتل منا نصف مليون إنسان، وتهدّمت بيوتنا، وتشرّدنا في الأصقاع، لنرى هذه الوجوه النيّرة!

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...