كلام في الهوى

29 سبتمبر 2023

(كلود مونيه)

+ الخط -

شغلني الصّيف وهو لا يريد المغادرة. أَفيقُ وأبحث عن نسمة هواءٍ صباحي، لذيذة ونصف باردة، تَعد بيوم مثمر. عن رائحةِ الاحتمالات التي تبدو من بعيدٍ ممكنة جداً. لكن ما العمل لقطفها؟ هكذا تبدأ نهارك الصّيفي، وتنتظر أن يفيق ذهنك من ثقله، وأن يبدأ اليوم، لكن لا أحد منهما يحرّك ساكناً، فيأتي منتصف النهار، وأنت بلا نهار. تقضي المساء منتظراً أن يأتي الصّباح التالي، ثم ينتهي بك الأمر أن تنتظر الفصل التالي.

مرّة أخرى، أكتب عن الصّيف، منزعجة من وجوده وثقله وسماجته. ربما المُلام على ذلك عدم الاعتياد. وإلّا فانظُر إلى أهل المناطق الأكثر حرارة في العالم، الذين لا يملكون رفاهية الهروب من الصيف، ولا أفعاله، لأنه صار جزءاً من حياتهم. كذلك البرد، انظُر إلى المناطق شديدة البرودة، كيف لا يكاد أهلُها يتحدّثون عن البرد، كنعتٍ مذمومٍ أو صفةٍ يرفضونها نفسياً. علينا التعوّد، أقول لنفسي، فليس بالإمكان العيش في الخريف والرّبيع فقط، ماذا نفعل بنصف العام؟ نطويه ونركض؟

الرّاسخون في المال أو الحيلة، يجدون حلولاً. دهشت في دُبي بكمية المال التي يصرفها المليونيرات على منازل في مدينةٍ يستحسن العيش فيها نصف السنة فقط. لكنهم يملكون بيوتاً في أمكنة أخرى في العالم، أمكنة لطيفة الطقس في الربيع والصيف. لكن حتى في هذه الأمكنة الناس غير مرتاحين، فمن كان يتخيّل أنني سأنبذ جهة البحر في الصّيف. لم تعد لي قدرة على تحمّل الحشود من أجل غطسة في البحر، أو نزهة على شاطئه. دعوني في بيتي أعانق "الفُنتيلاتور"، هذا الاسم الثقيل الذي يليق بفعل المراوح. فكلمةُ مروحةٍ تجعلك تفكّر في المروحة الصينية اليدوية الظريفة الرسوم لغيشاتٍ كالدمى.

بينما اسم "الفُنتيلاتور" (ventilateur) يشبه الساقية، تلفّ وتدور بلا كلل، لتقوم بعمل بديهي كنقل الماء أو الهواء. هل الطبيعة عاجزة حقّاً عن منحنا طقساً رحيما، أو أننا كائناتٌ لا يعجبنا العجب؟ لكن هذا غير صحيح، فباقي الحيوانات ليس عليها العمل كل يوم، من أجل تأمين احتياجاتها. فيكفي أن تنطلق في الأرض لتصيد منها ما تحتاجه، لهذا لديها طاقةٌ للتآلف مع الطقس. أما الإنسان الكنود، فليس لديه طاقة لتقوية نظامه المناعي أمام الطقس الذي يعيش فيه. فجعل حيوانات كثيرة تعمل من أجله، وكان عليها المسكينة أن تعاني بدورها من قسوة الطقس وقلة الحيلة. ما العمل يا لينين؟ هل العيب فيَّ أم في من يخرج نهاراً جهاراً وسط الشمس ولا يبالي؟

في بلدي ومدينتي المتوسطيين بامتياز، شعرتُ دوما، قبل الاحتباس الحراري، بأن الصيف أجمل، فهو فصل الحب والانسجام مع الطبيعة. مع جمال الطقس، وحرية الجلوس في مقاه على البحر، والليل الدافئ الساهر. على عكس ليل الشتاء الذي رغم طوله، قصير النّفس، فصاحبه ملفوف، ككرة الملفوف نفسه، في بطّانيات وطبقات ملابس تفصله عن العالم، وعن الحبّ وسنينه. تتعطّل أجهزة الاستشعار عنده، لغياب الكهرباء الداخلية التي تنتعش بالشمس والدفء.

لن أتحدّث عن ضربة الشمس، والهروب من الخارج كالهروب من الفرن. بل عن قدرة احتمال شخصٍ آخر، في طقسٍ يفصل بين المرء وحبيبه، وكثيرين حوله ممن تفوح روائحهم. فيذكّرونني بالقرف الذي أشعر به وأنا أشاهد أفلاما تدور في زمن قديم، لم يكن فيه مُزيلات عرقٍ أو صابون، ولا ماكينات حلاقة ولا حلاوة تطير بزغب الشّعر في مكامن العرق. كيف يتحمّل الإنسان غيره وهو لا يكاد يتحمّل نفسه وروائحه؟ لا عناق الأمهات ولا العشّاق يُطاق في غمرة الرائحة النفّاذة التي تراكمت.

مع ذلك، لا يكفّ أبطال أفلام الماضي ومسلسلاته عن العناق. وهو مشهدٌ أقرف من الذي يدخلك فيه مخرجٌ حفلة قيء بينما أنت جالس في سلام إلى مسلسلٍ مع لحظة الغداء. حتى الموتى، بنظري، يمكنهم التكلف بقيئهم بنفسهم. أما بدعة إمساك الشَّعرِ لحظة الإقياء، التي يصرّ مخرجو هوليوود على أنها دلالة محبّة وحب، فما عهدنا مثلها حتى في عصور الروائح القديمة. لعلني فقط قارفة متطرّفة، والقارف اسم الفاعل من قَرِف، لا حلّ لي في صيفٍ أو شتاء.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج