كفّوا أيديكم عن مخيّم جنين

29 ديسمبر 2024

دورية لجهاز أمن السلطة الفلسطينية في جنين (16/12/2024 Getty)

+ الخط -

 

حملةُ السلطةِ الفلسطينيةِ الشرسةِ ضدّ مخيّم جنين غير مفهومة، خاصّة تصريحات الأجهزة الأمنية أنها تستهدف "مرتزقةً" يتحكّم فيهم الحرس الثوري الإيراني، وفقاً للناطق باسم الأمن الفلسطيني أنور رجب، متناسيةً أن هناك عملاءَ لإسرائيل يشون بالمناضلين، ويتسبّبون باغتيالهم وأسرهم، إضافة إلى أن اتهام شبابٍ في جنين بالعمالة لإيران تريض صريح يخدم إسرائيل في معركتها لتصفية المقاومين. واضحٌ أن السلطة تريد نزع سلاح كتيبة جنين بتخويف المخيّم بأسره، وفي رسالة واضحة إلى المناضلين من الفصائل الفلسطينية كافّة، بما ذلك حركة فتح، بأن زمن نشاط مجموعات المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل قد ولّى، بعد بروز مجموعات ضمّت في صفوفها حركتي حماس والجهاد الإسلامي"، ومناضلين من "فتح"، حتى إن "عرين الأسود"، التي واجهت جيش الاحتلال بشجاعة في نابلس، كان أغلب كوادرها من حركة فتح.
توخيّاً للموضوعية، يجب الإقرار بأنه كانت هناك مشكلة فلتان في توزيع السلاح واستعماله، خاصّة من حركة الجهاد الإسلامي (عماد كتيبة جنين التي انضمّت إليها كوادر "فتح" في المخيّم منذ نشأتها)، وربّما ما تزال المشكلة حقيقية. ولكنْ، لماذا لم تسعَ السلطة إلى حلّها من خلال اتصالات مباشرة مع قيادة حركة الجهاد الإسلامي، التي يستطيع موفدون من السلطة وحركة فتح التواصل معها، وحتى لقاء قائد الحركة زياد نخّالة؟

مبررات السلطة لحملتها في مخيّم جنين غير مقبولة، إلّا إذا كانت تريد إنقاذ نفسها من غضب الرئيس القادم، دونالد ترامب

يجب التذكير هنا أن تشكيلات حركة فتح نفسها، من شباب الحركة المؤمنين بالمقاومة، قد ضعفت في المخيّم جرّاء العمليات العسكرية الإسرائيلية، وأُسِر عددٌ منهم، وفي مقدّمتهم أقوى شخصية فتحاوية في المخيّم، جمال حويل، الذي كان من المقاومين خلال الحصار الإسرائيلي للمخيّم إبّان الانتفاضة الثانية (2000)، وأوقف بشجاعة محاولات سابقة للسلطة لتطويع المخيّم، وهو كان ليتصدّى لها لو لم تُمدِّد إسرائيل أسره لاتهامات السلطة بأن إيران تحرّك كتيبة جنين، وهو ادّعاء يلائم واشنطن وتلّ أبيب. حملات إسرائيل العسكرية والأمنية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، بما في ذلك اغتيال مقاومين، وهدم بيوت، وفرض عقوبات جماعية، روّعت أهل الضفة، والآن تقمع أجهزة السلطة مخيّم جنين، وهي خطوة لم تكن لتجرؤ عليها حين كانت كتائب جنين متماسكةً، ومواقف قيادات "فتح" في المخيّم واضحةً، ورافضةً "حلولاً أمنية" في المخيّم.
تحاول تصريحات أمن السلطة أن إيران وراء المسلّحين في جنين الاستفادة من انحسار النفوذ الإيراني في المنطقة، إضافة إلى رسالة ضمنية إلى الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، أن وجود هؤلاء سيؤدّي إلى عمليات غير محسوبة تأتي بكارثة وانتقام إسرائيلي مماثل لحرب الإبادة المستمرّة في غزّة، وهي مخاوف حقيقية لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية. المشكلة في تحليل السلطة أنه لو افترضنا أن ما تقوله صحيح، فما هو النموذج الذي قدّمته سوى التخاذل والتواطؤ، عدا أن المقاومة لم تجد من يدعمها ويسلّحها سوى إيران، وهذا ما مرّت به حركة فتح في تاريخها النضالي، أي البحث عمّن يدعمها.
عملياً، تحاصر الدول العربية العمل المُقاوِم، وبعضها غارق في تطبيع تحالفي مع إسرائيل يجرّم المقاومة، وحتى يحاول إجبار السلطة الفلسطينية على وقف رواتب الأسرى وأسر الشهداء، والأن تأتي السلطة، وعلى لسان ناطق أمنها أنور رجب، وتقول إن ايران وراء "الفوضى في الضفة الغربية". هل تعتقد السلطة بكلّ جدّية أن إيران تُسيّر الوضع في الضفة الغربية؟ أو أن إيران ستستخدم المخيّم لتنظيم انقلاب ضدّها؟ وماذا سيكون موقف السلطة إذا اجتاحت إسرائيل الضفة الغربية تحت ذريعة محاربة "منظّمات إرهابية" تتحكّم فيها إيران؟ حينها لن يفرّق الجيش الإسرائيلي بين "فتح" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، من جهة، وأيّ فلسطيني آخر، أكان من السلطة أم المقاومة أم غيرهما (كما يفعل دائماً)، من جهة أخرى.
المشين والمحزن أنه في اللحظة التي تحتاج فلسطين إلى وحدة وطنية حقيقية، تدّعي السلطة أن إيران قد تسيطر على المخيّم، أي على كتيبة جنين، التي استفزّ نضالها ومقاومتها وزير الأمن الإسرائيلي السابق بيني غانتس، الذي وصف مخيم جنين (في مقابلة معه في 11 إبريل/ نيسان 2022) بـ"الخطر الاستراتيجي على إسرائيل يجب هزيمته". عليه، مبرّرات السلطة غير مقبولة ومدانة، إلّا إذا كانت تريد إنقاذ نفسها من غضب الإدارة الأميركية تحت قيادة الرئيس القادم دونالد ترامب الذي يبدو أنه يجعل جميع الأنظمة منشغلةً بكيفية نيل رضاه.
معاناة غزّة التي لا توصف من تجويع وبرد وقتل وتشريد، وكلّ قصّة فيها أقسى من مثيلتها، خصوصاً أن أميركا والدول الغربية تتعامل وكأنّ حرب الإبادة غير موجودة... هذه المعاناة هي التي يجب أن تحرّك الجميع بدلاً من الالتهاء بصراع على تثبيت سلطةٍ لا سلطة لها، فيما تعلو أصوات مثقّفين وفنّانين وناشطين عالميين تدعم الحقّ الفلسطيني، وتنتقد الإدارة الأميركية الحالية التي تشنّ حملة قمع ضدّ منتقدي إسرائيل ومؤيّدي الشعب الفلسطيني، تمهيداً لمرحلة قمع أقوى تتهيأ له الإدارة المقبلة من دون مهاودة أو التفات لحقّ حرّية التعبير في أميركا.

سيُصوّر الجميع عملاء لإيران، بعد أن أطلقت السلطة إشارة البدء بتهم لها تبعات خطيرة على الشعب الفلسطيني

تعاني الأنظمة العربية آفة مزمنة هي البحث عن دور وظيفي، أو تأكيد دور وظيفي. وهناك دور وظيفي للسلطة يرسمه الرئيس القادم دونالد ترامب، وهو تخلّي الجميع عن القضية الفلسطينية، هذا إذا قبل بالسلطة أصلاً. المطلوب الآن هو الحفاظ على مكتسبات وإنجازات حقّقتها المقاومة، والدعوة إلى تحريك دعاوى في المحاكم الدولية، وليس التفريط بها، لكن ما تقوم به السلطة محاربة الفلسطينيين، وحتى محاربة نفسها، إذ سيتم تصوير الجميع بأنهم ليسوا إلّا عملاء لإيران، بعد أن تبرّعت السلطة بإطلاق إشارة البدء، من دون أن تتذكّر أن الحركات الفلسطينية عانت وتعاني تهمة الإرهاب، وأن أميركا لم تشطب منظّمة التحرير الفلسطينية من قائمة المنظّمات الإرهابية.
يجب أن تكفّ السلطة يدها عن مخيّم جنين فوراً، وألّا تتذرّع بالفلتان، حتى لو كان موجوداً، وهناك وسائل كثيرة للتعامل معه. وعليها أن تكفّ عن إطلاق التهم التي قد يكون لها تبعات خطيرة على الشعب الفلسطيني. وإذا اعتقدت أنها حين تنضمّ إلى محاربي إيران في المنطقة، لتضمن دورها في إدارة "غزّة ما بعد الحرب"، فهي مخطئة، فواشنطن يهمّها تصفية القضية، وليس تطوّع السلطة لـ"مكافحة إيران" في مخيّم جنين.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني